قبل توقيع الإتفاق النووي في العام 2015 في عهد باراك أوباما ومن ثم بعد إسقاطه في العام 2018 في عهد دونالد ترامب، وصولاً إلى إدارة جو بايدن الحالية، لم يتوقف الجدال في إسرائيل حول جدوى توقيع الإتفاق النووي أو إسقاطه وأيهما أقدر على ضبط البرنامج النووي الإيراني والحد من تطويره.
لا ريب في أن هذا النقاش يدل على أن اسرائيل في مأزق، فالرئيس بايدن تعهد خلال حملته الرئاسية بالعودة الى الاتفاق.. أما في ممارسته السياسية، فقد تابع فرض عقوبات على ايران كدولة وعلى شخصيات ومؤسسات وكيانات ايرانية ولوّح بطرح موضوعي البرنامج الصاروخي الايراني والنفوذ الاقليمي لايران على جدول أعمال محادثات مجموعة «4+1» (روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا + إيران) في فيينا. بالتزامن مع الجولة الثامنة التي إنطلقت الإثنين الماضي، تجاهر إسرائيل بمحاولة دفع الولايات المتحدة إلى توجيه ضربة عسكرية قاتلة للبرنامج النووي الايراني. وفي الوقت نفسه، تهدد بتوجيه ضربة لهذا البرنامج، برغم اعتراضات داخلية تتمحور حول عدم قدرة إسرائيل وحدها على شن الضربة وعدم قدرتها على تحمل رد ايران ضد الداخل الاسرائيلي. اذا كان حزب الله تسبب في حرب يوليو/تموز 2006 بتهجير مليون إسرائيلي من الشمال وإذا كانت حماس والجهاد وباقي الفصائل تسببوا بتهجير مليون إسرائيلي من الجنوب في كل من حروب غزة الأربعة، كيف نتصور أن يكون الوضع حين تتساقط الصواريخ على الداخل الاسرائيلي وفي عمق الكثافة السكانية والاقتصادية في تل ابيب والقدس والخضيرة وغيرها؟ إذا وصلنا الى مثل هذا الوضع سيكون التهديد وجوديا وسيسعى معظم من يحمل جنسية ثانية الى مغادرة اسرائيل لاسباب امنية. ثمة مشاورات أميركية إسرائيلية مكثفة، ولعل ابرزها زيارة رئيس «الموساد» ديفيد برنياع الى واشنطن واجتماعه بنظيره مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز وأيضاً زيارة وزير الدفاع بني غانتس إلى الولايات المتحدة واجتماعه بنظيره الأميركي لويد اوستن ومستشار الامن القومي الأميركي جيك سوليفان، وقيام الأخير بعد ذلك بفترة وجيزة بزيارة خاطفة الى اسرائيل وإجتماعه برئيس الوزراء نفتالي بينيت بالاضافة الى الاتصال الهاتفي بين بينيت ووزير خارجية أميركا أنتوني بلينكن حيث شدد الأول على «وجوب وقف المفاوضات فوراً».
في المقابل، وكعادتها، لوّحت ايران وعلى مستويات سياسية وعسكرية عديدة أبرزها الحرس الثوري برد قاسٍ وموجع على اسرائيل في حال بادرت إلى الهجوم، وترافق ذلك مع مناورات بحرية وجوية وصاروخية في منطقة الخليج وبحر عُمان تضمنت اطلاق صواريخ بالستية وطائرات من دون طيار من على منصة اطلاق ومن دون الحاجة الى مدرج صغير. ويتلخص المشهد الآن بالآتي: اسرائيل تهدد بتوجيه ضربة للبرنامج النووي الايراني، وايران تهدد بالرد على الداخل الاسرائيلي، والولايات المتحدة التي كانت تحرص على التمسك بخيار المفاوضات والتسوية السلمية تراجعت في الآونة الاخيرة ولم تعلق على تهديد بني غانتس من واشنطن بتوجيه ضربة لايران. وما يلفت النظر هو الحديث لاول مرة في تاريخ النزاع العربي الاسرائيلي عن تعويضات لاعادة بناء ما تهدم من اسرائيل في حال تلقيها ضربة ايرانية. في ما يلي نعرض سيناريو محتمل لضربة اسرائيلية ضد ايران وعواقبه: الإحتمال الأول، إستناداً للامكانات العسكرية المعروفة، يمكن لاسرائيل قصف المواقع النووية الايرانية ويقع معظمها في وسط ايران في ناطنز واراك وفودو وكرج فيما يقع مفاعل بوشهر في منطقة مطلة على الخليج. وتستخدم لهذه الغاية طائرات F35 تنطلق من القواعد الجوية الاسرائيلية عبر اجواء الاردن والعراق حيث تبدو امكانية اعتراضها ضعيفة. تبعد الاهداف النووية مسافة نحو 2000 كلم وهذا يفرض وجود طائرات خاصة للتزود بالوقود جواً ترافق الطائرات المغيرة. ومن المعروف ان اسرائيل اشترت مثل هذه الطائرات من الولايات المتحدة ولم تستلمها بعد. أما ما تردد عن انطلاق الطائرات الاسرائيلية من اذربيجان، فهو مسار قريب ويغني عن التزود بالوقود جوا لكنه يطرح سؤالا سياسيا هل تسمح تركيا بضرب ايران؟ المؤشرات السياسية تستبعد ذلك. الاحتمال الثاني، ضرب صواريخ كروز من داخل غواصات اسرائيلية في اعماق بحر عمان. وفي هذه الحالة تكون المسافة بين الغواصات والمفاعلات النووية نحو 2000 كلم ما عدا مفاعل بوشهر. تكون نتائج هذه الضربات محدودة وتصيب البرنامج النووي باضرار وتؤخره لكنها لا تقضي عليه. في حال شاركت الولايات المتحدة في الضربة فان الاضرار التي تلحق بايران وبالبرنامج النووي ستكون بالغة جداً. اما عواقب هذا الرد واستناداً إلى ما صدر وما يزال يصدر عن القيادات الايرانية حتى الآن، فإنه سيتمحور حول ثلاثة أهداف: الاول، على اسرائيل: وفي هذه الحالة، ستطلق ايران اكبر عدد ممكن من الصواريخ البالستية وصواريخ كروز لضمان تجاوز القبة الحديدية ووصول عدد كبير من الصواريخ الى اهدافها. في هذه الحالة أيضاً، سوف تشارك سوريا بما توافر لها من صواريخ وحزب الله في لبنان وحماس والجهاد وباقي الفصائل في غزة ايضا. الجدير بالذكر ان صواريخ سوريا وحزب الله والمنظمات الفلسطينية قريبة جدا من الاهداف الاسرائيلية ويمكنها الحاق خسائر فادحة باسرائيل. الثاني، على اهداف اميركية في المنطقة: تنطلق الصواريخ الإيرانية على القوات الأميركية المنتشرة في العراق وسوريا والسعودية والبحرين والامارات والكويت وربما تركيا. طبعا امكانات ايران غير مضمونة باحداث ضرر كبير في القوات الاميركية المنتشرة ويؤدي قيامها بمثل هذه الضربات الى إحتمال نشوب حرب مع الولايات المتحدة لا تريدها ايران. الثالث، باقي حلفاء الولايات المتحدة في دول الخليج والعراق: يمكن لايران ان تحدث اضرارا جسيمة في هذه الدول وهي بمعظمها هشة ولا عمق ديموغرافياً يتيح لها الصمود في حرب تدميرية.
من المفترض ان تكون هذه العواقب محسوبة من قبل الولايات المتحدة وان تتفادى مثل هذا الصدام الابوكاليبسي في منطقة الشرق الاوسط. فهل تنجح الدبلوماسية الاميركية ام تجرها اسرائيل الى خيارات شمشونية؟
عميد ركن متقاعد