قبل إطلاق اسرائيل مناورتها العسكرية الأضخم منذ العام 1992، كانت قد اطلقت مناورة سياسية هي الاضخم في اتجاه اميركا وروسيا، تمثّلت بذهاب رأسي القرار السياسي والامني – العسكري فيها الى كل من موسكو وواشنطن، لوضع مطالب تل ابيب في سوريا على طاولة القرار الدولي، وذلك تحت عنوان: إمّا ان تبادرا الى اخراج ايران و»حزب الله» من سوريا، وأقله حالياً من منطقة جنوب غرب سوريا، والّا فإنّ اسرائيل ستبادر الى التدخل في سوريا لتحمي مصالحها بنفسها. وحددت تل ابيب ايلول الجاري موعداً لبدء تحركها. آنذاك، نقلت «الجمهورية» معلومات مصادر ديبلوماسية حول موقف اسرائيل المستجد وعَنونته بسؤال «أيلول الاسرائيلي تجاه حزب الله: حرب أم تكيّف؟»
نقطة البداية في مسار التصعيد الاسرائيلي الجديد بدأت مع إعلان منطقة خفض التوتر في جنوب غرب سوريا، واعترضت اسرائيل عليها من زاوية انها لا تلحظ سحب عناصر «حزب الله» وايران منها.
إثر ذلك نشرت اسرائيل صوراً قالت انّ قمرها الصناعي التقطها لمصانع صواريخ ايرانية في سوريا، وتحديداً في وادي جهنم. ثم ارسلت وفداً أمنياً رفيع المستوى الى واشنطن للبحث في مطلب اسرائيل بضرورة ان يشتمل اي حل في سوريا على إخراج ايران منها.
مستشار الأمن القومي للرئيس الاميركي وجّه اسرائيل الى موسكو لكي تفاوض هناك حول هذا المطلب. وقصد نتنياهو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لم يُبد اكتراثاً بمطلبه.
حتى في اميركا استشَفّ الاسرائيليون انّ ادارة الرئيس ترامب لا تزال على تعهّدها الدفاع عن امن اسرائيل في حال تعرضت لهجوم ايراني، ولكنها غير متحمّسة للسير في مطلبها بضرورة اخراج ايران من سوريا شرطاً مسبقاً لأيّ حل للأزمة السورية.
لم توافق تل ابيب على نتائج محادثات وفودها في واشنطن وموسكو، وتوعّدت بأنها ستعمل بنحو منفرد لحماية مصالحها الأمنية في سوريا، وحددت أيلول موعداً لتغيير سياساتها في سوريا.
وهذا ما يفسر لماذا اعتبر المحللون العسكريون الاسرائيليون أنّ الغارة الاسرائيلية على مصياف لا تشكل استمراراً لنحو 100 غارة نفذتها اسرائيل في سوريا خلال السنوات الخمس الماضية ضد مواقع وقوافل سلاح لـ«حزب الله»، بل بداية مسار عسكري نوعي، يستهدف إثبات حضورها في الازمة السورية، والتذكير بمطلبها الاستراتيجي إبعاد ايران و«حزب الله» من سوريا، لأنّ استمرار وجودهما فيها يؤسسان لخطر استراتيجي مستقبلي عليها.
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح حالياً، هو الى أيّ مدى ستذهب اسرائيل في تصعيدها العسكري الذي بدأته بمصياف، والمعبّر عن انها بلورت خياراً جديداً في سوريا، له طابع سياسي وعسكري واستراتيجي؟ وهل يفضي الى مواجهة إقليمية؟ وما هو موقف روسيا؟ وكيف سيتأثر الميدان السوري بفعل دخول اسرائيل اليه؟.
الاجابة عن هذه الاسئلة ستحددها طريقة تفاعل الاحداث في الفترة المنظورة، وذلك تحديداً داخل سياقين مفتوحين على تباينات اقليمية خطرة:
السياق الاول، يتعلق بنتائج غارة مصياف، وذلك وفقاً لما تحمله الغارة ذاتها من دلالات يمكن من خلالها الاستدلال على طبيعة مدى التصعيد الذي تريده اسرائيل.
وضمن درس هذه الجزيئة يتوقف محللون عند اشارة لافتة، ومفادها انّ الغارة الاسرائيلية لم تكن مفاجئة، بل كانت متوقعة منذ عاد الوفد الاسرائيلي الامني رفيع المستوى من اميركا خائباً، ومنذ تَوعّد نتنياهو بعد زيارته غير الناجحة لموسكو بأنّ اسرائيل ستعمل منفردة لضمان منع تعاظم وجود ايران الاستراتيجي في سوريا، ولكن ما هو محلّ تساؤل الآن في شأن غارة مصياف يتعلّق بمكانها.
فالطائرات الاسرائيلية الاربع لم تستهدف كما كان متوقعاً وادي جهنم الواقع على بعد 20 كلم شرق مصياف، والذي سبق لإسرائيل وقالت انه يوجد فيه موقع قيد الانشاء لتصنيع الصواريخ يشبه ويماثل مواقع تصنيع الصواريخ الموجودة في ايران.
وبدل ذلك استهدفت الغارة توجيه رسالة تصعيد الى الرئيس بشار الاسد من خلال قصفها موقعاً سورياً بكل عديده وعتاده، وهو موجود على بعد 18 كلم شرق مصياف ويوجد فيه فرع لمركز البحوث العلمية وقاعدة تدريب وقطاع صواريخ.
ويوحي انتقاء هذا الهدف بأنّ اسرائيل تحاذِر في هذه المرحلة استفزاز ايران في سوريا، ولذلك اختار نتنياهو تهديد الأسد وتوجيه رسالة اليه تفيد أنّ كل الانجازات التي حققها لإعادة تثبيت حكمه قد تتعرض للاهتزاز في حال ثابَر على التمسّك بالوجود الايراني في سوريا على المدى البعيد.
وفي اسرائيل يعترفون بأنّ الموقع المستهدف وَجّه ضربة للأسد، بمعنى انه موقع سوري صرف، ولكنهم في الوقت نفسه يوضحون في رسائلهم الى دول القرار العالمي انّ الهدف السياسي الاستراتيجي للغارة هو منع ايران من التمركز الاستراتيجي في سوريا، وهذا ما عَبّر عنه وزير الدفاع الاسرائيلي افيغدور ليبرمان الذي عَلّق على الغارة قائلاً: «انّ تل ابيب عازمة على منع إنشاء الممر البري الايراني في المشرق».
على انّ القراءة السياسية الاساسية لغارة مصياف، تظهر انّ الاستراتيجية التي وعد بها نتنياهو أخيراً للتعامل مع المرحلة الاسرائيلية الجديدة في سوريا، تتجه الى حصر ضرباته ضد الاسد، في اعتباره، بحسب تل ابيب، الحلقة الاضعف في المحور الايراني ـ الروسي ـ السوري.
وهدف اسرائيل من ذلك الضغط على الرئيس السوري، والاستثمار في التصعيد العسكري ضده، لإرغام حليفته موسكو المعنية ببقائه في الحكم – وبدرجة ثانية واشنطن- على التخلّي عن موقف عدم اكتراثها بمطلب اسرائيل، والتحرك في اتجاه فتح ملف مستقبل الوجود الايراني في سوريا، إنطلاقاً من مصالح أمن اسرائيل، وايضاً مسايرة مطلب تل ابيب بمراجعة اتفاق منطقة خفض التوتر في جنوب غرب سوريا.
السياق يتصل بسيناريو إمكانية اندلاع حرب، ومدى قدرة اسرائيل على خوضها. الاجابة الشائعة عن هذا الاحتمال والسؤال حتى في اسرائيل، تفيد أنّ تل ابيب لا ترغب في فتح حرب شاملة، بدليل تجنّبها توجيه غارتها الاخيرة الى حيثية ايرانية واضحة في سوريا، لخشيتها من انّ مثل هذا الاستهداف قد يقود ايران الى الرد بأساليب مختلفة، ما سيلزم اسرائيل بالتدحرج في سياق تبادل الضربات العسكرية بينها وبين ايران و»حزب الله»، وربما «حماس»، ما قد يُفضي الى حرب غير محسوبة.
وفي الوقت نفسه لا يريد «حزب الله» حرباً، لكنه يتوجّس من الانجرار اليها، إنطلاقاً من نشوء اوضاع في سوريا تؤدي الى تكثيف اللكمات العسكرية بينه وبين اسرائيل.
وتقع الخشية في ان تقوم اسرائيل بتوجيه ضربة تفوق قدرة صبر ايران والحزب على تحمّلها، وعندها سيتم الرد بمستوى قد يفوق أيضاً قدرة صبر اسرائيل على تحمّلها، وهنا ستنزلق الامور في اتجاه حرب غير محسوبة.
يسمّي «حزب الله» هذا الإحتمال بإمكانية حصول «حرب بين حربين»، بمعنى انّ الحزب يدرك انّ اسرائيل تعدّ لحرب ضده، وفي المقابل فهو يعدّ لشَن حرب ضد حرب إسرائيل عليه، لكنّ تطورات احداث سوريا قد تقود الى حصول حرب مبكرة بين الحربين المنتظرتين.