بعد مرور 11 شهراً على التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا تبدو موسكو وكأنها نجحت في تثبيت دورها مظلّة واقية تحتاجها الأطراف المنغمسة في صراع الحياة والموت في سوريا.
قبل هذا التدخل كانت المقولة الرائجة لدى النظام السوري والقوى المتحالفة معه أن لا إمكانية لتأمين حماية سياسية دولية لسوريا بلا روسيا، ولكن وبدءاً من أواخر أيلول 2015 تاريخ دخول الطائرات الحربية الروسية ميدان الحرب في سوريا أصبحت المقولة أن لا إمكانية للاستمرار في الحرب أو حتى خوض المعارك بلا موافقة روسيا.
فمنذ ذلك التاريخ عمد الكرملين المشبع بدروس التدخل في أفغانستان أيام الإتحاد السوفياتي الى وضع سلسلة أهداف حقق معظمها في غضون أشهر.
نجح في ترسيم خطط حماية قوية لمناطق نفوذ النظام والتي باتت تُعرف بـ«سوريا المفيدة»، استعاد زمام المبادرة الميدانية وانتزع مناطق كثيرة شكّلت ضرباتٍ موجعة للفصائل المعارضة، وضع حداً للحلم التركي بالدخول الى شمال سوريا وإنشاء منطقة عازلة تخضع له مباشرة ولو أنّ الدخول التركي في جرابلس أخيراً يخضع لعناوين أُخرى ولاتفاق كامل مع روسيا، والأهم أصبحت سوريا منطقة نفوذ روسية لينحسر معها النفوذ الإيراني الى حدّ ما بعدما كان خشبة الخلاص الوحيدة، وضعت القيادة العسكرية ضابطاً لها في كلّ غرفة عمليات تابعة للقطع العسكرية المختلفة للجيش السوري، بحيث يستحيل إجراء أيّ تحرّك عسكري بلا موافقة موسكو، وفي الوقت نفسه باشرت القيادة العسكرية الروسية تجهيز قاعدة حميميم العسكرية وتوسيعها لناحية استكمال إنشاء بنية تحتية متطوّرة وكبيرة ما يوحي بإقامة روسية طويلة.
صحيح أنّ موسكو احترمت رغبة النظام بإبقاء سماء دمشق من مسؤولية سلاح الجوّ السوري دون سواه، إلّا أنّ القيادة العسكرية لجميع القوات المشارِكة في القتال لمصلحة النظام كانت تخضع لغرفة العمليات المركزية الروسية والتي يتولّاها ضباط روس رفيعو المستوى مثل نائب رئيس الأركان في بعض الاحيان.
في اختصار أمسكت موسكو بمفاصل النزاع الدائر وحصّنته بتفاهمات على مختلف المستويات مع النظام السوري، والأهم بتفاهمات بُعدها استراتيجي وإقليمي مع إيران جاءت معالمه واضحة مع استخدام القاذفات الروسية الاستراتيجية القواعد العسكرية الإيرانية في خطوة أولى من نوعها منذ قيام انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
كذلك نسجت روسيا تفاهماً مع الصين التي تنتهج سياسة دولية حذرة، وعلى رغم ذلك دخلت بكين الى النزاع الدائر في سوريا بهدوء وأرسلت خبراء عسكريين يتولّون أدواراً محدَّدة وأقامت تعاوناً عسكرياً في مجال الأسلحة مع الجيش السوري.
وما من شك في أنّ روسيا استفادت من الموقف الصيني ووجدت فيه دعماً في مجلس الأمن والمحافل الدولية. وجاء التفاهم مع تركيا بعد أشهر مضطربة ليساعد موسكو على دورها الجديد في الشرق الأوسط.
هذا المسار الروسي تمّ صوغه تحت سقف التفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية، ولو وفق عناوين محدَّدة، ولكن مع احتفاظ موسكو بهامش واسع من حرية الحركة.
حتى الآن نجح الكرملين في إدارة التناقضات على الساحة السورية بحنكة وبراعة، لكنّ ثمّة أسئلة حول إمكانية ولادة التسوية التي تسعى موسكو لإنجاح ظروفها وهي في عزّ قوتها فيما تراهن على حاجة إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما الى إنجازٍ قوي ومدوٍ في سوريا والعراق لإستثماره في الحملات الانتخابية الدائرة لمصلحة حزبه الديموقراطي وعلى أساس النجاح في ضرب دولة «داعش».
لكنّ واشنطن تريد أيضاً التأسيس لحلٍّ سوري يسمح لاحقاً لإدارة هيلاري كلينتون إحداث خرق تاريخي على مستوى التسوية الإسرائيلية ـ العربية ولا شك في أنّ واشنطن، ومعها تل أبيب، راقبتا بكثير من الاهتمام حركة «حزب الله» في سوريا. ففي الأساس وضع «الحزب» هدفين أساسيَّين لإنخراطه العسكري المباشر في النزاع السوري.
الأول، الإبقاء على خط التواصل مع طهران لحماية حزب الله ودوره في جنوب لبنان، والثاني فرض حزب الله نفسه طرفاً إقليمياً لا يمكن تجاهله عندما يحين وقت التسوية. ألم يعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في إحدى إطلالاته أنّ المنطقة يجري عجنها وأنّ حزب الله سيكون حاضراً حول طاولة التسويات!
خلال السنوات الماضية قاتل حزب الله في سوريا من خلال تركيبة جديدة فرضتها ظروف الحرب فيها. فتمّ إنشاء ثلاث قيادات عسكرية لكلٍّ منها عناصرها وتركيبتها المستقلّة. واحدة لسوريا وثانية لإسرائيل وثالثة للداخل اللبناني.
لكن خلال المرحلة الأخيرة لاحظت واشنطن، ومعها تل أبيب، بطبيعة الحال أنّ قسماً من المجموعات المخصّصة للحرب مع إسرائيل تمّ إدخالها الى الميدان السوري.
لم تكن الأسباب متعلّقة بالحاجة الى النقص في العناصر بمقدار ما كان الهدف أن تكتسب هذه المجموعات خبرة القتال داخل المدن والأماكن السكنية، ذلك أنّ حزب الله كان قاتل لفترة قصيرة في بنت جبيل إبان حرب العام 2006 وهو ما لم يمنحه الخبرة المطلوبة.
ولكن بدءاً من معارك القصير في سوريا باتت لمجموعات حزب الله خبرة واسعة في القتال داخل المدن، وترافقت خطوة الحزب هذه مع تصعيد السيد نصرالله المواقف ضد إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية والملف الفلسطيني وهو لمّح مراراً الى أنّ الحرب المقبلة ستكون داخل إسرائيل.
وفي المقابل شكل الدخول العسكري التركي الى جرابلس السورية نقط تقاطع بين تركيا وسوريا وإيران لناحية قطع الشريط الكردي، وبالتالي ضرب أيّ إمكانية لاستكمال قيام دولة الأكراد شمال سوريا. لكنّ هذا الدخول إذا ما توسّع يطرح علامات استفهام لإيران مستقبَلاً.
فماذا لو وسّعت تركيا مسرح عملياتها تحت عنوان مقاتلة «داعش» والأكراد؟ وماذا لو استفادت واشنطن مع الإدارة المقبلة من هذه الخطوة ووظفتها في إطار الضغط على مصالح إيران والنطام السوري في سوريا في إطار اللعبة الإقليمية الكبرى والمقصود بها إسرائيل؟
فالإدارة الأميركية المقبلة، أيّاً تكن، ستنتهج خطاباً متشدّداً لأغراض داخلية وأُخرى إقليمية ما يضع المنطقة أمام تحدّيات جديدة. وهو ما يعني بطريقة أو بأُخرى أنّ الساحة اللبنانية ستشكل عندها ساحة ضغوط رديفة قد يعمد الجميع الى عرض عضلاته من خلالها.