IMLebanon

العدوانية الإسرائيلية والكفاح الفلسطيني والتهدئة اللبنانية

 

في وقت تتمازج فيه التكهّنات، بمحاولات استشراف كل طرف بعد الإنتخابات لتوجّهات الطرف الآخر ومطالبه في إثرها، فيما من السابق لأوانه بعد الحديث عن “خارطة طريق” مسبقة للتأليف الحكومي العتيد، ومن سيساهم في تسهيله والتعجيل به، ومن سيساهم بالإتجاه المعاكس، يأتي الحدث دامياً من غزّة، بالجريمة الإسرائيلية المستمرّة، كما يأتي الحدث مستفزّاً في النافر من انحياز لإسرائيل وسياساتها العدوانية في القدس، بحفل تدشين السفارة الأميركية فيها، وبما يفترض أن يعكسه هذا من “معطيات تنبيهية” أساسية، لا بدّ للأطراف الداخليين من أخذها بالحسبان بشكل رئيسي، إذا ما أرادوا تصليب عود التسوية القائمة منذ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وهي “معطيات تنبيهية” تضاف إلى سمات المرحلة الراهنة بالشكل الذي تكشفت فيه الأسبوع الماضي مع إنسحاب الولايات المتحدة من الإتفاق النووي للمجموعة الدولية مع إيران، وما تبع ذلك على الجبهة الإسرائيلية السورية، وفي إطار المواجهة الإسرائيلية ـ الإيرانية.

 

الإدارة الأميركية الحالية ماضية بالفعل في “تنفيذ” وعود دونالد ترامب الإنتخابية الواحد منها بعد الآخر، من انسحابه من اتفاق الشراكة للمحيط الهادىء الى انسحابه من اتفاقية باريس حول التبدل المناخي إلى القيود على السفر لأميركا الذي شمل مجموعة بلدان إلى قراره نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، والذهاب مباشرة نحو “التدشين” وليس الى التأخير في التنفيذ على ما سعى وزير الخارجية السابق ريكس تيللرسن للايحاء قبل أشهر، وبالطبع الانسحاب من الاتفاق مع ايران، من دون أي خطة بديلة لإعادة التفاوض، وبما يفتح منطقة الشرق الأوسط على احتمالات شتى، كلها خطيرة بمقدار معيّن.

 

يبقى أنّه في مقابل “تنفيذ” ترامب وعوده الإنتخابية، فإنّ حجم تركيز ادارته على سياستها الخارجية على حساب سياستها الداخلية يزيد ولا ينقص، بخلاف نغمة “الإنعزال عن مشكلات العالم” التي سادت حملته غداة السباق إلى البيت الأبيض. واذا كان ترامب قد سحب سياسة بلاده من خطاب تصدير الديموقراطية، فإنّ السياسة التي يعتمدها في الشرق الأوسط، المتماهية تماماً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بشكل يفوق كل انحياز أميركي سابق لإسرائيل، وبشكل “مُستغنٍ” تماماً عن كل أدبيات “عملية السلام”، وناسفٍ لمبدأ “الأرض مقابل السلام” بلا مواربة، ومعتدٍ على القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بخصوص القدس تحديداً، كلّ هذا منحى يفرض نظرة أكثر قدرة على وعي الانهيار التام لمقال التسوية في الشرق الأوسط.

 

فهذه التسوية التي كانت مفترضة أساساً براعيين أميركي وسوفياتي، ولدت من الأساس شبه ميتة مع زوال أحد هذين الراعيين، وعاشت نصف حية لفترة على اعتبار نهوض الراعي الثاني بدور منحاز الى اسرائيل انما غير متماهٍ معها. أما اليوم، فالتماهي في الموقف بين أميركا واسرائيل ليس حتى بالوصف الدقيق. الموقف الأميركي تجاه الفلسطينيين بات أكثر تطرفاً حتى من الموقف الإسرائيلي.

 

وبالنسبة لإسرائيل، فهي لم تعد قابلة لأي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية، ولو المجهرية، ولو الرمزية. ليس هناك فيها أي استثناء جدي على هذا الصعيد، لا على مستوى المؤسسة الحاكمة، ولا على مستوى الجماعة. الرهان الأساسي لإسرائيل هو على تجميد الحال القائمة حالياً في الضفة والقطاع لأطول فترة ممكنة على ما هي عليه الأمور في السنوات الماضية، أي وضعية يكون فيها 2.7 مليون فلسطيني في الضفة، بما فيها القدس الشرقية، ثلثهم خاضع للإحتلال المباشر، والباقي في غيتوات الحكم الذاتي المحلي فيما الإحتلال قابض على المواصلات بين هذه الغيتوات وبينها وبين خارج الضفة، ووضعية يكون فيها 2 مليون فلسطيني في قطاع غزة لوحده، غزة التي تحولت إلى “عاصمة ديموغرافية” للفلسطينيين، والتي يراهن الجانب الإسرائيلي بشكل متواصل على تنمية عناصر “اختلاف الحال” بينها وبين الضفة. الفارق الأساسي بين قطاع غزة وبين الضفة يتجاوز مع هذا القسمة بين “فتح” و”حماس”. انه الفارق بين عمل استيطاني متواصل في الضفة، ومع خيار “ترانسفير” لقسم من سكانها يظل قائماً كخيار اسرائيلي أساسي، وبحسب خارطة الإنتشار الإستيطاني، في حين أن قطاع غزة هو بخلاف هذا، نتيجة للترانسفير، مجتمع من اللاجئين محصور في بقعة جغرافية ضيقة ومحاصرة.

 

في ظل أوضاع كهذه، لا يمكن لأحد من خارج الأراضي المحتلة أن يتصرّف بشكل “وعظي” تجاه الأشكال الكفاحية المختلفة التي يظهرها الفلسطينيون في مواجهة هذه الآلة الإستعمارية العدوانية المتواصلة. ولا يمكن بالتوازي التعامل مع المأساة المتواصلة والكفاح المتواصل لشعبين مجاورين، الفلسطينيون والسوريون، كما لو أنّه “بعيد” عن اللبنانيين. ثمّة، لبنانياً، اختلاف عميق بين وجهتي نظر أساسيتين حيال ما يحدث في سوريا، في حين أنّ الإجماع على الوقوف إلى جانب الفلسطينيين في كفاحهم الوطني التحرري له مقومات أساسية متوفرة، يبقى تنظيمها بشكل مدرك لطبيعة المرحلة، ولضرورة حماية لبنان وصيانة التهدئة الداخلية القائمة فيه مع جعلها صيانة بنكهة مؤسساتية، بالقدر المتاح.