«ما زالت هناك عمليات أخرى، فالمهمة لم تنتهِ بعد». هذه الجملة تلخص الإطار العام الذي تعمل على أساسه حكومة نتنياهو تجاه لبنان والإقليم كله. فالفرصة القائمة تاريخية وفقاً للغالبية الساحقة من الساسة الإسرائيليين، لإحداث تغيير شامل في معادلة الردع وموازين القوة ليس فقط مع الجماعات المسلحة المناهضة لإسرائيل، بل لمن وراء تلك الجماعات، وفي المقدمة إيران. هذا النوع من التفكير في ظل حالة نشوة هائلة تسود الطبقة السياسية على اختلاف اتجاهاتها الآيديولوجية، يصبّ مباشرة نحو مزيد من المغامرات العسكرية على نطاقات جغرافية أوسع من مجرد احتلال شريط حدودي في الأراضي اللبنانية أياً كان عمق الاحتلال.
تصفية الحساب مع «حزب الله» بعد النجاح في قتل غالبية عناصره القيادية العليا، وإحداث حالة ارتباك قصوى في صفوفه وفي بيئته الحاضنة في الجنوب اللبناني تحديداً، يعطي دفعة إسرائيلية لممارسة المزيد من الضغوط العسكرية، في ظل تأييد علني من قِبل إدارة الرئيس بايدن، تجسد في بيان البيت الأبيض وتصريح المرشحة الرئاسية الديمقراطية كامالا هاريس، اللذين أشادا بقتل قيادات «حزب الله» الذي «حققته العدالة الإسرائيلية»، حسب وصفهما، وأنهت حياة عناصر إرهابية خطرة قتلت أميركيين وغير أميركيين.
يمتد الأمر إلى ارتباك في الموقف الإيراني، الراعي الرئيسي لـ«حزب الله» اللبناني ومجموعات مسلحة أخرى كما في اليمن والعراق، والذي تبدو مؤشراته منقسمة بين تيارين رئيسيين؛ أحدهما تيار الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الموسوم رئيساً إصلاحياً، يطمح إلى إعادة فتح الأبواب المغلقة مع الولايات المتحدة والغرب عامة، عبر إحياء مفاوضات جديدة بشأن البرنامج النووي الإيراني؛ بهدف تطبيع علاقات إيران الدولية، والحد من عواقب العقوبات الأميركية والأممية. والتيار الآخر وثيق الصلة بالـ«حرس الثوري»، ويؤمن بأن قدر إيران وحلفائها مرهون بالصراع مع الكيان الإسرائيلي، وبمعركة كبرى تطيح المشروع الصهيوني وتنهي وجوده على أرض فلسطين، مع الالتزام الحاسم بدعم القوى المناهضة لإسرائيل في لبنان وفي غيره، ومن ثم فالوقوف وراء الحزب لا تراجع عنه، بل الدفع نحو إحباط المخطط الإسرائيلي لا سيما في لبنان، عبر الدعوة إلى فتح باب التطوع أمام الإيرانيين وغير الإيرانيين لنصرة مقاتلي «حزب الله» في معركتهم المنتظرة على أرض لبنان.
التياران السائدان الآن في إيران يعيدان مشهد الانقسام الذي ساد إبان فترة الرئيس محمد خاتمي (1997 – 2005)، بين أولوية الإصلاح الداخلي، وتعزيز مصالح الدولة الإيرانية، والسعي نحو الاندماج في المنظومة العالمية والإقليمية وإن بتدرج، وبين مهمة التمدد الإقليمي المقدسة، والدور الريادي الإيراني في إحداث تغييرات كبرى في الإقليم تتوافق مع التوجهات الآيديولوجية للجمهورية الإسلامية المقررة في الدستور منذ زمن الخميني.
بيد أن البيئة الدولية والإقليمية المحيطة بإيران في اللحظة الجارية تُعدّ أكثر إيلاماً مقارنة بما كانت عليه زمن الرئيس خاتمي؛ ما يجعل الخيارات المتاحة ذات طابع حدي، فإما الاندفاع نحو منازلة كبرى والمشاركة فيها مباشرة، وإما الانكفاء نحو الداخل ولو لاحتواء الضغوط، مع التخفيف من الالتزامات الخارجية، وبالتالي الحفاظ على المقدرات القائمة مدنياً وعسكرياً. وما بين هذين الحديْن، تبدو مؤشرات الموقف الإيراني تتجه نحو موقف وسط، يُعنى بتقديم دعم سياسي ودعائي لـ«حزب الله» ومساعدته على التعافي تدريجياً، من دون الانخراط في مواجهة مباشرة على الأرض اللبنانية، مع ضبط لحركة الحلفاء، بخاصة في العراق.
وما بين الحسابات الإيرانية؛ حيث التريث أو الاندفاع، وبين الخطط الإسرائيلية الطموحة لتغيير شامل في الشرق الأوسط ككل، بدعم غير مسبوق من قِبل الولايات المتحدة، يبدو لبنان في عين العاصفة، ومن خلاله سيتحدد حدود التغيير المرتقب في لبنان ذاته، وفى عموم فلسطين المحتلة والإقليم معاً. فمن خلال التوجه الإسرائيلي والمناورة الأميركية بشأن حملة برية في الجنوب اللبناني، تستهدف ما يوصف بقواعد جديدة تنهي خطر «حزب الله»، وتحقق الفصل النهائي بين مجريات الجنوب اللبناني وقطاع غزة، وتُؤمّن عودة المستوطنين الإسرائيليين إلى مستوطنات الشمال، سوف يتوقف مصير الإقليم لسنوات عدة مقبلة.
ثمة بديلان محتملان؛ الأول أن يُوظّف التهديد بالحملة البرية، من قِبل الولايات المتحدة وفرنسا وموافقة إسرائيلية، لانتزاع تنازلات من «حزب الله» تحت مظلة الحكومة اللبنانية، لتطبيق القرار 1701، لا سيما إخلاء الجنوب من جميع مظاهر تسلح الحزب حتى نهر الليطاني والالتزام بعدم توجيه أي ضربات لشمال إسرائيل، وإفساح المجال أمام انتشار الجيش اللبناني، ودعمه بالسلاح المناسب. والآخر أن تصرّ تل أبيب على غزو الجنوب اللبناني والسيطرة على شريط حدودي، ولو بعمق 10 إلى 15 كيلومتراً.
نجاح البديل الأول يتوقف على مدى المرونة التي قد يصل إليها الحزب في ظل غياب قياداته التاريخية، وتردد إيران في الاندفاع نحو منازلة كبرى، والأهم أن يتوافق اللبنانيون أنفسهم على استعادة مفهوم الدولة والمؤسسات الفاعلة الرشيدة، وأن تتخلص الطبقة السياسية على اختلاف مشاربها من صغائر الأمور، كشروط لا مفر منها لاستعادة سيادة لبنان واستقراره. إسرائيلياً، ثمة تنازلات مطلوبة، أهمها مراجعة الأفكار الخيالية بالقدرة على تغيير الشرق الأوسط ككل بضغطة زر حسب وصف نتنياهو في الأمم المتحدة، والنظر بواقعية إلى أن أمن المستوطنين الإسرائيليين لن يتحقق إلا بتحقيق أمن لبنان ككل. وتقتضي الواقعية أيضاً إدراك أن حالة الارتباك التي تسود «حزب الله» في هذه الأيام لن تستمر طويلاً في حالة الغزو البري للأراضي اللبنانية، ومع أول دبابة صهيونية تخطو إلى الجنوب اللبناني تصبح المقاومة أمراً حتمياً وشرعياً، والدماء الإسرائيلية لن تقل عن تلك اللبنانية.