IMLebanon

حفاظاً على وحدة الصف والتَّضامن الوطني وصوناً للبنان

 

 

مما لا شك فيه أننا نمرّ في مرحلة في غاية الحراجة، بحيث نكاد نكون قاب قوسين أو أدنى من تعرّضنا لاعتداء إسرائيلي غاشم، يروّج له العدو بشتى الوسائل، ويتوعَّد قادته بإنزال أقسى الخسائر البشريَّة والماديَّة بلبنان ومقاومته، وتدمير بناه التَّحتيَّة ومرافقه الحيوية وأحيائه السَّكنيَّة على غرار ما حصل ويحصل في غزَّة، متفاخرين بوحشيتهم، وبارتكاباتهم الإجراميَّة التي لم يسبق للمجتمعات البشريَّة أن عرفت بشناعتها؛ حيث لم يسلم من إجرامهم الشيوخ ولا النساء ولا الأطفال والرضّع، والذين تعمَّدوا تدمير منازلهم والأماكن التي لجأوا إليها فوق رؤوسهم، وقطعهم كافَّة مقومات الحياة عنهم من كهرباء وماء وحجب للمواد الغذائيَّة، ولم تسلم من آلات القتل والتدمير العسكريَة التي بحوزتهم حتى المستشفياتُ ودور العبادة والمدارس والأفران ومختلف المراكز الخاصَّة بالأمم المُتحدة ووكالة غوث اللاجئين والصليب الأحمر، وقطعوا عنها التيار الكهربائي، كما منعوا المحروقات الضروريَّة لتشغيل المولدات الكهربائية الضرورية لتشغل التَّجهيزات الطبيَّة، وتعرّضوا لمعظمها بالقصف مباشرة حيث عطِّلت غرف العمليات وحجرات العناية الفائقة والإنعاش، وأقسام الطوارئ..

هذا هو العدو الذي نواجهه في لبنان، ويواجهه الفلسطينيون في غزَّة، وهذه هي طباعه وخصاله وسولوكيَّاته التي لازمته منذ نشأته، والتي تقوم على ارتكاب المجازر والاعتداءات الإرهابيَّة والتَّنكيل بالمدنيين العزّل، والتَّعدي على المقدَّسات، واستهداف النساء والأطفال بأبشع الصور الإرهابيَّة وأكثر أساليب الحرب وحشيَّة، من دون أي رادع أخلاقي.

 

ما كان لكل ذلك أن يحصل لولا ما يلقاه هذا الكيان من دعم غربي مطلق، تتولى تسويقة وتنميطه وتنسيق حشوده الولايات المتحدة الأميركيَّة، والتي يبدو أن رئيسها الطاعن بالسِّن لم يعد يعِ مخاطر ما يقوم به، وبما يزجّ به دولته من أمور لا إنسانيَّة تخالف المبادئ التي قامت عليها، بتبنّيه مختلف الروايات الإسرائيليَّة الملفّقة والبناء عليها، وفي أحيان كثيرة تراه سبّاقاً في إيجاد التَّبريرات لأفعالها الشَّنيعة، كزعمه أن ثمَّة رؤوس أبرياء قد قطِّعت على أيادي حماس، وأن الأخيرة تبالغ في أعداد القتلى والجرحى، وأن صواريخ حماس هي التي أصابت المُستشفيات، متغافلاً عن الإنذارات التي كانت توجهها السلطات الإسرائيلية لإخلاء المستشفيات والتهديد بقصفها، والعمل على تعطيلها ووضعها خارج الخدمة بشتى الوسائل، هذا عدا عن التسويق لمنح إسرائيل مهلة تلوى أخرى لتمكينها من استكمال تنفيذها لمخططها التهجيري، بإرساله وزير خارجيَّته إلى المنطقة أكثر من مرَّة للترويج لهذا الغرض، وتحقيق مقوماته، وممارسة الضغوط اللازمة لتمريره طوعاً أم قسراً.

 

لم يعد بخافٍ أن إسرائيل أوشكت على الانتهاء من تنفيذ مخططها التَّهجيري لسكان غزَّة، وتسعى لجعله واقعاً مفروضاً، فهي لم تترك مكاناً مؤهلاً للسكن بتدميرها لمعظم الأحياء السَّكنيَّة، وتعطيلها لمختلف المرافق الحيويَّة، هذا بالإضافة إلى تخريب كل مصادر الطاقة والمياه. وعملت وتعمل على حشر سُكان غزَّة في بقعة جغرافيَّة قد لا تتسع لافتراشهم الأرض أو لإقدامهم وقوفاً، فكيف لهؤلاء الذين أخرجوا من ديارهم عراة حفاة من دون مأوى أو ملجأ أن يواجهوا المقبل من الأيام، حيث ستكون بانتظارهم موجات الأمطار الغزيرة والحر والقرّ الخ…

إسرائيل التي نجحت بمساعدة أميركية من إعداد العدَّة للإنقضاض على أعدائها، انتهجت تكتيك الاحتماء بالحلفاء للإستفراد بالأعداء، بحيث عملت على حشد التأييد والدَّعم وبادرت إلى القضاء على منظمة حماس عسكريًّا أو تحييدها، وتهجير أهالي غزَّة إلى جنوب القطاع، اتِّخذت القرار منذ أن حظيت بهذا الكم من الدَّعم العسكري الذي سُخِّرت له أساطيل وحاملات طائرات وغوَّاصات، وكم كبير من الوحدات العسكريَّة والأسلحة والذخائر العالية التقنيَّة والمدمِّرة، فوضعت نصب أعينها، ومنذ البدء أيضًا، تحقيق مآرب أخرى، تتمثَّل في نقل الحرب إلى الجبهة الشِّماليّة فور الانتهاء من تحييد كتائب القسَّام وسرايا القدس التابعة للجهاد الإسلامي، وهيَّأت الظروف المؤاتية لذلك بحشد ما يلزم من فرق عسكرية على الجبهة الشماليَّة واحتفاظها بقوة احتياط هائلة، والحرس على القيام بمناوشات عسكرية يوميًّا لاستغلالها في الوقت المناسب، عند رغبتها في إطلاق شرارة الحرب على جبهتها الشماليَّة.

 

قد تكون المقاومة اللبنانيَّة مستعدَّة لمختلف الاحتمالات، بما في ذلك احتمال نشوب الحرب على الجبهة اللبنانيَّة – الإسرائيليَّة، إلاَّ أن لبنان الرَّسمي غير مستعد ولم يتحضَّر كما ينبغي لمتطلبات ومقتضيات الحرب إن وقعت، خاصَّة في ظل حالة التفكك السياسي والانهيار الاقتصادي والضَّائقة المعيشيَّة التي يعاني منها اللبنانيون. ولكن كل هذا ليس بيت القصيد، إذ ثمَّة مخاطر لا تقل أهميَّة عن ذلك، يتخبط فيها الشَّعب اللبناني وجيش من المطبّلين والمزمّرين، وأعني بذلك المناكفاتِ الشَّعبويَّة الحادَّة تجاه ما يحصل وقد يحصل من صراع عسكري مصيري على المستوى الوطني.

ثمَّة شبه إجماع لبناني رسمي يتمثَّل في التَّعاطف مع الشعب الفلسطيني في محنته وشجب وإدانة ما تقوم به إسرائيل من ارتكابات شنيعة بحقَّه، ومقت للأنظمة الدَّولية الدَّاعمة لهذا الكيان؛ ولكن المُستغرب هو الافتقاد لهذا الإجماع في ما خصَّ التَّهديدات الإسرائيليَّة الموجهة إلى لبنان، بحيث أن البعض يُغالي بالمزايدات بالتعبير عن فائض القوة بنبرات عاطفيَّة انفعاليَّة لا تخلو من الاستفزاز، والبعض الآخر يغالي باتهام المقاومة أنها تعمل وفق أجندة خارجيَّة وهذا لا يخلو من الاستفزاز أيضاً، وأنها مغامرة قد تودي بلبنان إلى التَّهلكة فيما لو استمرت المناوشات على الحدود في ظل اختلال موازين القوة لصالح الكيان الإسرائيلي.

تدعونا الموضوعيَّة للقول أن المقاومة في لبنان وحاضنتها الشَّعبيَّة تبدو هذه المرَّة أكثر تعقُّلاً وإدراكاً لحجم التَّحديات من كل المرات السَّابقة، وعياً لمخاطر ألتَّسرُّع في الانخراط بحرب غير متوازنة؛ وفي المقابل، إن المعارضون لخروج المقاومة عن مظلة الدَّولة وارتباطها بجهة خارجيَّة، يبالغون في تحميل المقاومة وزر مغبَّة الإنجرار إلى الحرب الدائرة، حتى ولو فرضت الحرب برغبة من العدو في توريط الولايات المتحدة الأميركيَّة ومن خلفها الغرب في حرب مفتوحه لتقويض كل مقومات القوَّة لدى من يعتبرهم أعداء، وفي طليعتهم حزب الله وإيران.

الأخطر مما يحصل على المستوى السياسي الداخلي، يتمثل في ما نشهده عبر الإعلام الرقمي وبخاصة عبر وسائط التَّواصل الإجتماعي من تبادل للنعوت والاتهامات التَّخاذلية والتَّخوينيَّة، وهذا ضار جدًّا في الحفاظ على وحدة الصَّف والتَّضامن الوطني في هذا الظرف بالذات. وأقصد بذلك ما يقوم به بعض ممن يدّعون الدِّفاع عن المقاومة، من المغالين في التطاول على باقي الشركاء في الوطن، وبعض الرموز السياسيَّة، وتناولهم بنعوت يلقونها جزافاً وعبارات يعتمدونها في مداخلاتهم، وهي إن أسهمت في شيء فهي تؤدي إلى تنفير باقي المكونات اللبنانيَّة أو بعضها من الإجماع والوقوف صفًّا واحداً خلف المقاومة في دفاعها عن لبنان، ويقابلهم موتورون آخرون، يستفزهم الحديث عن احتمالية نشوب الحرب وحتمية انتصار المقاومة بها قياساً على التجارب السَّابقة، وكلا الطرفان يجهل مغبَّة التمادي في هذه المقاربات غير المسؤولة، والتي تفرِّطُ بالتَّماسك الدَّاخلي وتقوض عراه، وتدفعنا لمواجهة العدو منقسمين فيما لو فرضت الحرب على لبنان.

من هنا تأتي دعوتنا للجميع بضرورة التَّحلي بقدر عالٍ من المسؤوليَّة، وتبنّي خطاباتا ومواقف داخليَّة معتدلة ومتوازنة، والابتعاد عن مقاربة الصراع مع العدو من منظار انتماء فئوي مصلحي أو عاطفي ضيِّق، يغلب الميول والأهواء على ضرورة التعقل والتحلّي بالحكمة، كما ننصحُ بالابتعاد قدر الإمكان عن تناول الأمور الخلافيَّة الدَّخليَّة راهنًا، والسَّعي إلى تسخير كل الإمكانيات المتاحة لتجنّب الحرب أولاً ومن ثم الإستعداد لها بغض النَّظر عن نسبة احتمال وقوعها، على أن يؤجل التَّطرق للأمور الدَّاخلية لأوقات وظروف أكثر نضج وملاءمة.

* عميد متقاعد