Site icon IMLebanon

الإعتداءات الإسرائيلية: معاناة تتضاعف والأفق مسدود

 

 

منذ أن وسّعت إسرائيل اعتداءاتها في لبنان في أيلول الماضي، دخل الشرق الأوسط مرحلة جديدة من التوترات التي تهدّد باندلاع نزاع إقليمي واسع النطاق. تباعاً، استهدفت الحملة العسكرية الإسرائيلية مناطق أوسع في لبنان، أسفرت عن مقتل أكثر من 3000 شخص ونزوح 1,4 مليون آخرين. وبينما كان الهدف الرسمي لإسرائيل تدمير قدرة «حزب الله» العسكرية، فإنّ التكتيكات التي اتبعتها توحي بأهداف سياسية تتجاوز حدود الدفاع عن النفس، وتؤدّي إلى أزمة إنسانية هائلة في لبنان.

كانت الاعتداءات الإسرائيلية، التي تسبّبت بتدمير عدد من المدن والقرى، شبيهة بتلك التي مارستها في غزة في السنوات السابقة. واستخدم الجيش الإسرائيلي أساليب مثل «الضربات المزدوجة»، التي تستهدف في غالب الأحيان العاملين على الخطوط الأمامية، كالصحافيِّين وفرق الإغاثة، وهو ما أسفر عن مقتل كثير من هؤلاء، وتدمير مستشفيات ومرافق حيوية أخرى. فضلاً عن ذلك، استهدفت الضربات الجوية مراكز قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، ممّا يزيد من تعقيد الوضع.

 

 

تُبرّر إسرائيل الاعتداءات بأنّها تهدف إلى القضاء على «حزب الله» وضمان أمن حدودها، لكنّ التصريحات الأخيرة لنتنياهو توضح أنّ الهدف السياسي أوسع من مجرّد تدمير القدرة العسكرية للحزب.

 

ففي حديثه في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أكّد نتنياهو أنّ «إسرائيل ليست في حالة حرب معكم»، وبعد أيام هدّد اللبنانيّين بأنّهم إذا لم يتخذوا خطوات لطرد «حزب الله»، فإنّهم سيواجهون «الدمار والمعاناة كما في غزة»، ممّا يشير إلى أنّ إسرائيل تسعى إلى التدخّل في الشؤون الداخلية للبنان، والضغط على المجتمع اللبناني لتقليص قوة «حزب الله».

 

إحدى نتائج العدوان الإسرائيلي هي زيادة حدّة الانقسامات الطائفية والسياسية داخل لبنان، إذ يسعى كل طرف إلى استغلال الوضع لمصلحته. هذه السياسة قد تشبه إلى حَدٍّ بعيد ما حدث في عام 1982، حين حاولت إسرائيل فرض إرادتها على لبنان بالقوة العسكرية. آنذاك، وعلى رغم من محاولاتها لتحقيق أهداف سياسية معيّنة، كان ما تحقق هو إشعال جولات من العنف المستمر.

 

منذ انفجار مرفأ بيروت عام 2020، والاقتصاد اللبناني في انهيار مستمر. 80% من السكان تحت خط الفقر، والبنية التحتية للبلاد مدمّرة، مع حكومة تصريف أعمال عاجزة عن التعامل مع الأزمات المتوالية. فأتى العدوان الإسرائيلي ليضيف عبئاً ضخماً على الشعب اللبناني، ويهدّد بتفاقم الوضع.

 

 

الدمار الذي أحدثته الاعتداءات الإسرائيلية على مناطق مثل بيروت، البقاع، وجبل لبنان، أدّى إلى وضع النازحين السوريّين وكأنّهم عبء أمني واقتصادي داهم. كما حذّرت منظمة الصحة العالمية من تفشّي مرض الكوليرا في لبنان، نتيجة تدمير شبكات المياه والصرف الصحي، ما يهدّد بتفشي الأمراض وسط العائلات التي اضطرّت للنزوح في ظروف قاسية.

 

مع كل هذه المعاناة، يوجّه اللبنانيّون انتقادات للمجتمع الدولي، الذي يتبنّى معايير مزدوجة في تعامله مع النزاعات في المنطقة. ففي حين تحرّكت الدول الغربية بسرعة لفرض عقوبات على روسيا بعد غزوها لأوكرانيا، لم تبادر بالوتيرة عينها ضدّ إسرائيل في حربها على لبنان، على رغم من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي وحقوق الإنسان.

 

وكان أحد الأمثلة الصارخة، الاعتداء الإسرائيلي الذي استهدف منطقة البسطا في بيروت، وأسفر عن مقتل 22 مدنياً وإصابة أكثر من 100 آخرين، بسبب مزاعم بوجود أحد مسؤولي «حزب الله» بالقرب من المنطقة.

 

تكرّرت هذه الأنماط في الاعتداءات الأخرى، مثل الاعتداء الذي دمّر مبنى سكنياً في حي الجناح في بيروت، وأدّى إلى مقتل 18 مدنياً.

 

 

الدراما السياسية

على رغم من كل الفظائع التي ترتكبها إسرائيل، فإنّ النزاع في لبنان ليس محصوراً في مواجهة بين «حزب الله» وإسرائيل فقط. فهناك تفاعل مُعقّد بين القوى السياسية في لبنان، إذ يعاني المعارضون من حالة من التهميش في ظل النزاع الدائر. و»حزب الله»، الذي كان يُشكّل قوة عسكرية، يسيطر على السياسة الحكومية، ويتخوّف معارضوه من خروجه أقوى من هذه الحرب.

 

يشير التاريخ إلى أنّ المعاناة المدنية التي سببها العدوان الإسرائيلي على لبنان، سواء في عام 1982 أو في حرب 2006، غالباً ما تكون عاملاً في زيادة شعبية «حزب الله». هذه المرّة، قد تكون النتيجة عينها، إذ ستؤدّي الضغوط العسكرية الإسرائيلية إلى تحفيز مشاعر التضامن مع الحزب، ما يقوّي موقفه في السياسة اللبنانية.

 

كانت معارضة «حزب الله» سمة دائمة في السياسة اللبنانية منذ عام 2005، التي تُوّجت بظهور بشائر حقيقية للإصلاح في الانتخابات البرلمانية عام 2022. فبعد احتجاجات تشرين الأول 2019 التي دعت إلى سقوط الزعامات والقوى السياسية التقليدية، بما فيها «حزب الله»، فاز 13 نائباً مستقلاً بمقاعد في مجلس النواب، وهو أكبر عدد من نوعه في لبنان ما بعد الحرب.

 

ستذهب جهود القوى السياسية المستقلة سدىً، إذ يمكن توقّع أنّ الضرر غير المتناسب الذي تُلحقه إسرائيل بالمدنيّين سيولّد على الأرجح دعماً أكبر لـ»حزب الله» على المدى الطويل. ونتيجة ذلك، سيختفي النقاش العام حول مدى مسؤولية «حزب الله» عن النزاع الحالي.

 

الأمر عينه حدث بالفعل خلال حرب 2006، إذ وُصم أولئك الذين لم يقدّموا دعماً كاملاً لـ«حزب الله» بأنّهم متواطئون مع إسرائيل وحلفائها الغربيِّين. فيما غُضّ النظر عن تطبيق القرارات الدولية (1559، 1680 و1701) نتيجة التوازنات السياسية التي تجنّبت الأحزاب الكبرى والطوائف الـ6 الكبرى المساس بها، ما أفضى عن تمادي سيطرة طهران على قرار الحرب والسلم في لبنان.

 

اليوم يُنْتَقَد «حزب الله» لأنّه اختار مساندة غزة ومواصلة المواجهة مع حكومة إسرائيلية متّهمة بالإبادة الجماعية، ومُنتقدة بشدة من أطراف متعدّدة، بما في ذلك بعض حلفائها السياسيّين التاريخيّين. لكن مع مرور الوقت، ستخفت الأصوات المناهضة لـ«حزب الله»، بينما تتسبّب إسرائيل في مزيد من المعاناة المدنية العشوائية في لبنان، إذ لا يوجد شك في ذهن اللبنانيّين، حتى أولئك الذين يعارضون الحزب، حول هوية من يعتدي عليه، إذ يبدو أنّ إسرائيل تعيد إنتاج الظروف نفسها التي أدّت إلى نمو شعبية «حزب الله» في الثمانينات والتسعينات.