يثير الإقرار الصادر عن قيادة حزب الله، بامتلاك القدرة الصاروخية الدقيقة، أسئلة ترتبط بمرحلة ما بعد الامتلاك التي من شأنها أن تجلب فائدة دفاعية بمستويات غير مسبوقة للبنان.
واحد من الأسئلة التي باتت حاضرة على طاولة البحث، هو ما يجب على القيادة الإسرائيلية أن تطلع جمهورها عليه، تتمثل في إمكان إلحاق خسائر مدنية جراء استخدام حزب الله القدرة الصاروخية الدقيقة، رغم دقتها العالية في حال تقرر استهداف عدد من المواقع العسكرية الاستراتيجية الموجودة في وسط مدني مكتظ.
وواحد من هذه المراكز، بطبيعة الحال وأكثرها حضوراً ومكانة، هو مجمع الكريا في وسط تل أبيب، حيث وزارة الأمن والأركان العامة للجيش الإسرائيلي.
وبصرف النظر عن الأسباب التي تدفع حزب الله إلى استهداف هذا المجمع، وبصرف النظر عن الاعتداء الإسرائيلي ومحله الذي قد يدفع إلى الرد بهذا المستوى، تبرز جملة أسئلة، من بينها ما لا يجري تداوله في العادة، إن في التقديرات أو التحليلات على اختلافها، ويقتصر الأمر فقط على الجانب الإسرائيلي منه: هل يجيز القانون الدولي استهداف مجمع الكريا في حالة الحروب؟ وفي حال الإجازة، هل يبرر ذلك هامش الخطأ، وإن كان محدوداً، والتسبب بخسائر مدنية في سياق الاستهداف نفسه؟
هذا النوع من الأسئلة بات أكثر معقولية ويتعلق بإمكانية لم تعد مقتصرة على الجانب الإسرائيلي، مع امتلاك حزب الله القدرة الدقيقة والتدميرية، والمتملصة من المنظومات الاعتراضية الإسرائيلية.
عام 2012، كانت قدرات حزب الله العسكرية، بما يشمل الوسائل القتالية والخبرات، متواضعة أمام ما بات لديه الآن، وإن كانت قدراته في حينه تفوق قدراته عام 2006، بأشواط. في عام 2012، لم تكن القدرة التدميرية والدقيقة محلاً للتداول لدى إسرائيل، بل كانت تنتظر إنهاء وجود الحزب تبعاً لمخطط إنهاء هوية الدولة السورية مع بدء الحرب عليها.
المواقف الإسرائيلية بشأن دقة الصواريخ وقدرتها التدميرية، كانت تُطلق في دردشات ومقابلات إعلامية، ولم تكن الرقابة العسكرية مضطرة إلى التدخل، باعتبار أن تهديد حزب الله الدقيق لم يكن موجوداً، ولا تصوّر لامتلاكه لاحقاً، وخاصة أن تل أبيب كانت تنتظر السقوط القريب للحزب مع سقوط الدولة السورية.
بتاريخ 09/06/2012، نشرت صحيفة هآرتس مقابلة مع الباحث والخبير في القانون الدولي وقوانين الحروب والنزاعات المسلحة، الرئيس السابق لجامعة تل أبيب، يورام دينشتاين، أكد فيها أن وزارة الأمن والأركان العامة في مجمع الكريا في تل أبيب، هي هدف عسكري جراء هويته وطبيعته، وعلى هذه الخلفية يشرع استهدافه في حالة الحروب والنزاعات المسلحة. أضاف دينشتاين، الذي تصفه هآرتس بأنه واحد من أهم العلماء في القانون الدولي وأكثرهم شهرة في مجاله، أن وجود وزارة الأمن والأركان العامة في منطقة مدنية وسط تل أبيب، لا يحول دون كونها هدفاً عسكرياً يمكن للعدو بحسب القانون الدولي مهاجمته عن بُعد، سواء باستخدام الطائرات أو الصواريخ. وقال: «من هنا تأتي الخشية في أن يتسبب استهداف الكريا بخسائر مدنية، كونها موجودة في منطقة مدنية مكتظة». ولفت دينشتاين إلى أن المادة 58 (ب) من البروتوكول الأول الإضافي لعام 1977، الذي يكمل اتفاقيات جنيف لعام 1949، تنص على وجوب تجنب أن تكون الأهداف العسكرية في المناطق المكتظة بالسكان. وهذه المادة كما يؤكد، «لا خلاف أنها باتت واحداً من أهم بنود القانون الدولي العرفي، الذي يجب أن يخضع له المجتمع الدولي برمته، وهو ملزم أيضاً لإسرائيل، رغم أنها ليست طرفاً موقعاً على البروتوكول الإضافي».
«لكن، هل هذا يعني شرعية استهداف الكريا حتى مع إمكان سقوط أعداد كبيرة من المدنيين؟»، أجاب دينشتاين: ضرب أهداف عسكرية خلال الحروب مشروع حسب القانون الدولي، لكنه محدد بقاعدة التناسبية في حال كان من شأن الاستهداف التسبب بسقوط خسائر مدنية، بمعنى أن القانون الدولي لا يسمح بمهاجمة هدف عسكري إذا كانت الأضرار الجانبية المتوقعة للمدنيين تتجاوز الميزة (الفائدة) العسكرية المتوقعة لضرب الهدف العسكري نفسه. وهنا لفت إلى الآتي: «الميزة العسكرية المتوقعة جراء هجوم ناجح على وزارة الأمن ومرافق هيئة الأركان العامة، ميزة كبيرة جداً، ما يعني إمكان توجيه الضربات إليها، حتى مع توقع سقوط مدنيين».
وزاد دينشتاين أن «هجوم صدام حسين الصاروخي على تل أبيب عام 1991 لم يكن متوافقاً مع القانون الدولي، لأن صواريخ السكود التي استخدمها لديها هامش خطأ يصل إلى ما بين ثلاثة كيلومترات وخمسة، وهو هامش خطأ كبير جداً بحيث إن إرادة استهداف الكريا وحدها، دون الدقة، لا تكفي وتعني عملياً استهداف المدنيين. إلا أن الأمر مغاير لاستهداف مبني على صواريخ دقيقة، رغم الإدراك المسبق أن لا ضمان مطلقاً دون هامش خطأ للصواريخ الدقيقة، مئة بالمئة».
بالطبع، ثمة تحفظ كبير جداً إزاء جملة من المعطيات الواردة في تقرير هآرتس وتوصيفاته المدنية والحقوقية، وخاصة ما يتعلق بإمكان إسقاطها على إسرائيل، إلا أن هذه المعطيات كما ترد، تستأهل التوقف عندها طويلاً، وخاصة ما يتعلق بتفعيل قاعدة «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم».
مع ذلك، لا ضرورة لدينشتاين وغيره من علماء القانون الدولي والنزاعات المسلحة في إسرائيل وخارجها للبحث في مشروعية سقوط مدنيي تل أبيب في سياق الاستهداف المشروع للأركان العامة الإسرائيلية، وخاصة إن قررت إسرائيل مواصلة التقيد بمعادلة الامتناع عن استهداف الساحة اللبنانية، كما هي الحال منذ 13 عاماً.