واضحٌ تَعَقّد ساحات المواجهة الثلاث في وجه إسرائيل: سوريا ولبنان وقطاع غزة. الواضح أيضاً، تداخل هذه الساحات وتشعبها، في ظل التصاقها الكلي وتبادل تأثيراتها، وأكثر بكثير مما كانت عليه في الماضي.
قبل أيام، أنهى العدوّ تصعيده العسكري في غزة وبادر إلى قبول التهدئة، رغم إدراكه المسبق أن الصورة العامة التي سترسم في وعي جمهوره ولدى الفلسطينيين، وكذلك في سوريا ولبنان، أن تل أبيب تتحسب للمواجهات وتتردد أمامها.
إنهاء التصعيد جاء رغم هذه النتيجة السيئة، التي تلقي بظلال ثقيلة جداً على موقف تل أبيب وردعها تجاه الساحتين السورية واللبنانية، الأمر الذي يستدعي التأمل في ما بات عليه هذا الموقف فعلياً، مع كثير من التساؤلات: إن تراجع الجيش الإسرائيلي أمام غزة المحاصرة، مع تواضع قدراتها قياساً بما لدى حزب الله، فكيف بها إن نشبت المواجهة مع لبنان؟
ما حدث في غزة وتداعياته جزء من مركبات المشهد الشمالي مع سوريا ولبنان، ولعله الأخير في سلّم التأثيرات وإن كان كاشفاً للخشية الإسرائيلية من تبعات القتال العسكري المباشر. مع ذلك، دائرة المواجهة الكلية مع أعدائها في الشمال باتت أوسع وهي بشكل أو بآخر تشمل الجانب الروسي في هذه المرحلة، الذي يقيد إسرائيل ويقلص هامش مناوراتها في سوريا، وفيما يبدو أنه أيضاً تطلّع إلى انسحاب هذا القيد باتجاه الساحة اللبنانية نفسها، ما من شأنه زيادة التعقيد أمام إسرائيل، بما لا يمكن التعايش معه إلا قسراً، حتى وإن عمدت في المقابل إلى محاولة صده ومقاومته.
قبل أيام، أكد رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو أن «الأزمة مع روسيا أكثر تعقيداً مما اعتقدنا ابتداءً»، فيما أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، علناً، أن لا نية للقاء نتنياهو في المدى المنظور. إشارتان دالتان على استمرار الأزمة التي نشبت بين الطرفين إثر سقوط الطائرة العسكرية الروسية قبالة السواحل السورية في أيلول الماضي، على خلفية غارة جوية إسرائيلية على مواقع في اللاذقية وطرطوس. ولا يبدو أن التسوية ستتحقق في المدى المنظور. لكن المعطى الذي من شأنه زيادة منسوب القلق، ويتعلق بالساحة اللبنانية أيضاً، ورد أمس في صحيفة «هآرتس».
تحت عنوان «اهتمام بوتين بلبنان يحد أكثر من حرية عمل الجيش الإسرائيلي شمالاً»، أشارت الصحيفة إلى أن «المشكلة الرئيسية التي تواجهها إسرائيل في الشمال، هي باختصار الخطر الواقعي جداً في إغلاق نافذة الفرصة التشغيلية للجيش الإسرائيلي، وسواء كان الروس غاضبين جراء إسقاط طائرة التجسس الروسية منذ أكثر من شهرين، أو عمدوا إلى استغلال الحادثة لإملاء قواعد استراتيجية جديدة في الشمال، فإن النتيجة من ناحية إسرائيل هي ذاتها: قيود على حرية العمل شمالاً».
الأكثر مدعاة للقلق في إسرائيل، تنقل الصحيفة، هو إظهار بوتين اهتماماً متزايداً بما يجري في لبنان، ما يعني في سيناريوات سيئة، إمكان أن يعمد إلى توسيع المظلة الدفاعية الروسية المنصوبة في شمال غرب سوريا باتجاه الساحة اللبنانية، ما يعني زيادة تعقيد حسابات إسرائيل إزاء هذه الساحة.
بالطبع، في حديث الصحيفة قدر من المبالغة. إلا أنها مبالغة لا تغير كثيراً من الواقع كما هو. نعم الموقف الروسي، على فرض انسحاب دفاعاته باتجاه لبنان، يعدّ تعزيزاً إضافياً للتموضع الدفاعي القائم وشبه المشبع مقابل إسرائيل، الذي ثبتت فاعلية ردعه بإقرار إسرائيل نفسها، وحال دون شن هجمات طوال السنوات الطويلة الماضية. مع ذلك، القلق الإسرائيلي من المستجد الروسي، على فرض استمرار تباينه طويلاً مع الموقف الإسرائيلي، معطى يستأهل التأمل وانتظار ما قد يعقبه.
رغم تجمع المعطيات المانعة المذكورة أعلاه، تبدي إسرائيل إصراراً على مواجهة تعاظم قدرة أعدائها في سوريا ولبنان، بعد انتكاسة الطائرة الروسية. إصرار يثير في ظل إصرار مقابل، أسئلة إزاء خيارات العدو وإمكاناته الفعلية، وإن كان سيعتمد أياً منها: فهل تكرر إسرائيل استهداف الساحة السورية، رغم أن أي ضربات فيها تؤدي تلقائياً إلى استفزاز موسكو أكثر، وربما دفعها إلى التموضع أكثر ولمدة أطول إلى جانب شركائها في سوريا؟
في هذه النقطة تحديداً، يجب العودة إلى الخلفيات. موقف تل أبيب واعتداءاتها في سوريا، لجأت إليها في سنوات الحرب السورية كخيار بديل بعد تعذر (وخطورة) شن هجمات في لبنان. هذا الخيار (البديل) راهنت عليه إسرائيل طويلاً لمنع ما أمكن من تعاظم القدرة النوعية لحزب الله في لبنان، عبر منع وصولها إليه.
قد يعمد الروس إلى توسيع المظلة الدفاعية المنصوبة شمال غرب سوريا باتجاه لبنان
لكن في مرحلة ما بعد التقييد الروسي، يبرز الآتي: هل تعود تل أبيب إلى الخيار الأصيل وتوجه ضربات في الساحة اللبنانية، بعد تعذر البديل؟ يعترض الردَّ بالإيجاب، أن الأثمان التي منعت في الأساس الهجمات السابقة، باتت أعظم وأكثر تأثيراً وإيذاءً من ذي قبل. هذه هي المعضلة الإسرائيلية، في أن كل خيار مُجدٍ متاح، هو تهديد قبل أن يكون فرصة.
تأكيد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، كان حاسماً في حتمية الرد على الهجمات إن جازفت تل أبيب في لبنان. معطى سيكون حاضراً، وهو كذلك، على طاولة القرار في تل أبيب. لكن ما لم يَرِد في حتمية الرد، يمكن تقديره وربما ترجيحه، في أنه لن يكون رداً بالضرورة تناسبياً. الكرة كانت، وهي الآن لا تزال في ملعب إسرائيل.