قضيّة زياد عيتاني تشغل الإعلام ومواقع التواصل. والإعلام الإسرائيلي غطّى الموضوع، لكن نقلاً عن الإعلام اللبناني (وإعلام العدوّ ينسب أخباراً عسكريّة واستخباراتيّة للإعلام العربي عندما تكون صحيحة ويكون نشرها في إعلام العدوّ نقلاً عن مصادر إسرائيليّة ممنوعاً قانوناً هناك). القضيّة لم تُبتّ بعد، والتشكيك جارٍ لكن على قدم وساق على مواقع التواصل، وعيتاني يلقى من التعاطف والمآزرة أكثر بكثير ممّا يلقاه شاعرٌ في الأسر (مصطفى سبيتي) بسبب تعليق على «فايسبوك».
إن قضيّة التجسّس والإرهاب الإسرائيلي قديمة في التاريخ اللبناني: والتجسّس الإسرائيلي لا ينفصل عن إرهاب الدولة لأن العدوّ يريد معلومات يستخدمها في التفجير والاغتيال والقصف والنسف وإثارة الفتنة. وتجسّس العدوّ شاملٌ وغزيرُ الأنواع وتتنوّع مهامه بين أجهزة عدّة (بين الجيش وبين الـ«موساد» وبين الـ«شين بيت» في داخل دولة الاحتلال). وما صدر عن جهاز «أمن الدولة» اللبناني عن القضيّة الأخيرة تحدّث أيضاً عن مهام تكوين رأي وصناعة نخب من قبلة مُشغّلة العدوّ. وهناك مَن سخرَ على مواقع التواصل من ذلك على افتراض أن العدوّ لا يدخل في هذه المهام وأن التأثير على آراء النخب والعامّة ليس من اختصاص الـ«موساد». إن العدوّ الإسرائيلي بدأ بتجنيد عرب من أجل جمع المعلومات ومن أجل ضخّ الفكر الصهيوني في وقت مبكّر جداً، ولا يجهل ذلك إلا مَن يجهل تاريخ الحركة الصهيونيّة. وفي عام ١٩٢٠، بعد زيارة إلى فلسطين، طالب حاييم وايزمن مكتبَ استخبارات الحركة الصهيونيّة بوضع خطة شاملة لمواجهة الرفض العربي للصهيونيّة، وجاء في البند السادس من الخطة (بعدما وُضعت) ما يلي: «العمل على إثارة الشقاق بين المسلمين والمسيحيّين» 1. والعدوّ اهتمّ مبكّراً بموضوع اختراق النخب الصحافيّة والثقافيّة، حتى أن الياس ربابي (مِن أوّل حلفاء العدوّ الإسرائيلي في لبنان، وكان سفيراً وصحافيّاً كتب في معظم جرائد ومجلّات لبنان والعالم العربي، كما أنه كان عضو المكتب السياسي لحزب الكتائب اللبنانيّة) عرضَ على دولة العدوّ في الخمسينيات أن تملك حصّة في جريدة «العمل»، التي كان هو واحداً من مؤسّسيها. وقد موّل العدوّ الحملات الانتخابيّة لحزب الكتائب بدءاً من عام ١٩٥١ (وكانت المبالغ زهيدة —٢٠٠٠ دولار فقط 2— كعادة العدوّ في التقتير في تمويل حلفائه، مثل الملك عبدالله الذي كان يطالب العدوّ بمئات (فقط) من الجنيهات الاسترلينيّة مقابل مواقف ممالِئة له) 3. وطالب الياس ربابي العدوّ بمرتّب مقابل ضمان صهيونيّة السياسة التحريريّة لجريدة «العمل». وكان العدوّ يرصد ما يُكتب في الصحافة العربيّة، لا بل هو موّل (بعض) الصحافة اللبنانيّة في أميركا. وفي عام ١٩٦٨، ألقت السلطات الأمنيّة في لبنان القبض على سائق الصحافي، سليم اللوزي، «بتهمة التجسّس لإسرائيل كما تبيّن من الصور التي التُقطت له في سفارة العدوّ في كوبنهاغن» 4. والصناعي جورج أبو عضل، الذي امتلك امبراطوريّة إعلاميّة قبل الحرب الأهليّة (شملت مجلّة «الأسبوع العربي» و»ماغازين») وكان راعياً للقاءات بين الإسرائيليّين وبين كميل شمعون، كادَ أن يصبحَ وزيراً في عهد سليمان فرنجيّة إلا أن تحذيرات وردت إلى فرنجيّة من المخابرات المصريّة عن انفضاح علاقته بإسرائيل منعت تعيينه. ووليد قدّورة، الذي تجسّس في قيادة الجبهة الشعبيّة لحساب «المكتب الثاني» (والـ«موساد»، كما يعتقد عدد من قادة الجبهة وأرملة جورج حبش، هيلدا)، هُرِّب مِن لبنان في عام ١٩٨٢، وأصبح… صحافيّاً عاملاً في دولة الإمارات.
لم تصبح مكافحة التجسّس الإسرائيلي أولويّة إلا في دولة ما بعد الطائف
وفي الوقت الذي كان لبنان يعلن فيه أن إسرائيل هو عدوّ للبنان، كان كثيرون من الطبقة السياسيّة اللبنانيّة — وعلى أعلى المستويات — يتصلون بالعدوّ ويزوّدونه بمعلومات أو بالمشورة، أو الاثنيْن معاً. علاقة بيار وإميل إدة كانت وثيقة جداً، وكان التواصل بين بيار إدّة والسفارات الاسرائيليّة في الغرب يتم عبر أسماء وكلمات سريّة 5. وخير الدين الأحدب، الذي كان رئيساً للحكومة في حقبة الانتداب، طلبَ تمويلاً للمشاركة في الحملات الصهيونيّة ضد الحاج أمين الحسيني 6. وقد تواصل الضابط اللبناني «الكبير»، فؤاد لحّود، مع العدوّ الإسرائيلي منذ ١٩٥٥، (وهناك احتمال أن لبنان شارك — أو ساهم — بطريقة من الطرق، في العدوان الثلاثي على مصر في عام ١٩٥٦). (وفؤاد لحّود هذا، كان نائباً في مجلس ١٩٧٢، وانتخب رئيساً للجنة الدفاع النيابيّة فيه). والوثائق الأميركيّة في مرحلة الستينيات والسبعينيات تؤكّد أن الرؤساء اللبنانيّين كانوا على تواصل وتنسيق وتآمر مباشر مع العدوّ الإسرائيلي. وبلغت الصفاقة بفؤاد شهاب أنه طلب من العدوّ في أوائل الستينيات افتعال مشكلة حدوديّة كي ينقل ضبّاطاً ناصريّين بعيداً عن بيروت. وتظهر كتب نقولا ناصيف عن أجهزة الأمن والاستخبارات اللبنانيّة أن مكافحة تجسّس العدوّ لم تكن يوماً من أولويّات الدولة اللبنانيّة. مكافحة المقاومة (الفلسطينيّة واللبنانيّة) كانت دائماً من أولويّات الدولة، وهي اليوم من أولويّات نصف الدولة ونصف المجتمع—على الأقل.
لم تصبح مكافحة التجسّس الإسرائيلي أولويّة إلا في دولة ما بعد الطائف (خصوصاً في عهد إميل لحّود)، عندما انهار النظام الطائفي الذي كان يرى بينه وبين الكيان الصهيوني تكاملاً وجوديّاً (أو «محاكاة حضاريّة»، بحسب تعبير فادي افرام، قائد «القوّات اللبنانيّة» بعد اغتيال بشير الجميّل). لكن هذه المكافحة شابتها عوائق عديدة: ١) المخابرات السوريّة العاملة في لبنان كانت ترمي تهم العمالة لأسباب سياسيّة (كما ألقى رستم غزالة بتحسين خيّاط في السجن ورماه بتهمة العمالة لإسرائيل—قبل أن يُطلق سراحه بعد أيّام فقط). هذا التسييس للتهمة الخطيرة يُضعف من المكافحة الحقيقيّة ويُضفي على هذه المكافحة وعلى الاتهام — عندما يكون حقيقيّاً — ظلالاً من الشك والتشكيك (من قبل السذّج أحياناً ومن قبل الخبثاء أحياناً أخرى). كما أنّ رمي تهم العمالة مُستسهل في فريق «١٤ آذار» الإعلامي الذي يصف كل حليف للنظاميْن الإيراني أو السوري على أنه «عميل»، والذي يرمي بتهم عمالة أخرى ضد كل مَن يختلف معه في الرأي. والفريق نفسه يرفض تهم العمالة (حتى عندما تكون قانونيّة) لكنه يقبلها فقط في حالات تطال خصومه السياسيّين. أي أن تسييس المخابرات السوريّة لتهمة العمالة لا زال سارياً من قبل رافعي السيوف الخشبيّة ضد النظام السوري في لبنان. ٢) لم تكن مكافحة التجسّس الإسرائيلي ثابتة: كانت تضعف في حقبة ثم تنشط في حقبة أخرى، وتتهاون في حقبة أخرى. ٣) إن ارتباط قيادة الجيش اللبناني بالقوّات الأميركيّة واعتمادها على التسليح الأميركي يتناقض مع مهمة مكافحة التجسّس الإسرائيلي لأن أميركا تتدخّل لحماية عملاء العدوّ (أو عملائها هي طبعاً). ولا نزال نجهل كيف أن وزير الدفاع اللبناني، الياس المرّ، سمح للعميل الاسرائيلي، غسان الجد (وصل إلى منصب نائب رئيس الأركان في الجيش اللبناني)، بمغادرة لبنان بعد انكشاف تجسّسه للعدوّ الإسرائيلي. ولم يطلب لبنان ملاحقة هذا الجاسوس بعد هربه من لبنان عبر الـ«إنتربول». هل يمكن للحكومة الأميركيّة، التي تمنع الجيش اللبناني من إطلاق النار على إسرائيل ومن استعمال أي أسلحة من أسلحتها ضد إسرائيل، أن تسمح بمكافحة حقيقيّة للتجسّس الإسرائيلي؟ وهل أن الحكومة الأميركيّة يمكن أن تمنح الجيش سلاحاً او معدّات يمكن أن تضرّ بمصلحة إسرائيل؟ لا يمكن للجيش اللبناني أن يواجه عدوان إسرائيل أو أن يكافح تجسّس إسرائيل ما لم يتحرّر من التسليح الأميركي—بالرغم من حاجة لبنان إلى طائرات رشّ المبيدات والبزّات القتاليّة التي تمنحها الحكومة الأميركيّة إلى لبنان.
وهناك عقبة التنافس والتصارع بين أجهزة الاستخبارات اللبنانيّة. والتنافس بين أجهزة المخابرات ليس حكراً على لبنان: إن أجهزة الاستخبارات السبعة عشر الأميركيّة تتنافس هي أيضاً وتتصارع، ولم ينهِ صراعها خلق جهاز «مكتب الاستخبارات الوطني»، حسب توصية لجنة التحقيق الرسميّة في تفجيرات ١١ أيلول، للتنسيق فيما بينها. لكن الأجهزة اللبنانيّة محسوبة كلّ على طائفة ما، والطوائف محسوبة على أنظمة وجهات خارجيّة. و«فرع المعلومات» أقلّ الأجهزة الاستخباراتيّة استقلاليّة — بالمفهوم الوطني — وأكثره ارتباطاً وتورّطاً بأجهزة سعوديّة وأميركيّة وأوروبيّة. وهذا الجهاز، مثلاً، ورّط لبنان في الحرب السوريّة قبل أن يُرسل حزب الله مقاتلاً واحداً إلى سوريا. وتمويل الجهاز لا يخضع بالكامل للميزانيّة اللبنانيّة (من المشكوك فيه أن نشاط وسام الحسن في سوريا واستيراد السلاح في باخرة «لطف الله» كان بتمويل من خزينة الدولة). و«فرع المعلومات» نشط لحقبة ضد شبكات التجسّس الاسرائيليّة ثم توقّف فجأة.
التشكيك في تفاصيل قضيّة زياد عيتاني في جانب منه غير بريء
وهذه المنافسة تعكس جماهيرَ غير متقاطعة للأجهزة: جمهور «١٤ آذار» يثق بـ«فرع المعلومات» فيما يثق جمهور المقاومة بـ«مخابرات الجيش». لكن التعامل مع كشف التجسّس الإسرائيلي في لبنان يرتبط بسجالات سياسيّة لبنانيّة. إن كل إعلان إجماع لبناني سياسي هو باطل. نعلم اليوم من خلال الوثائق الأميركيّة المُفرج عنها أن رؤساء لبنان منذ الاستقلال حتى عهد أمين الجميّل خالفوا في الظاهر وفي المضمون عقيدة «الميثاق الوطني» وتحالفوا — كلّهم — مع التحالف الغربي ـ الإسرائيلي ضد مصالح لبنان والقضايا العربيّة — عندما كانت القضايا العربيّة مُرتبطة بتعريف الشعوب وليس بتعريف أمير سعودي طامح. والاتفاق على عروبة لبنان كان كاذباً بحكم التحالف بين فريق لبناني سياسي نافذ ودولة العدوّ. واليوم، يكتفي فريق «١٤ آذار» (الذي لم يحدْ منذ ٢٠٠٥ عن خط التحالف الأميركي ـ السعودي ـ الإسرائيلي) بكليشيه «إسرائيل عدوّ». وإطلاق هذا الكليشيه لا يختلف من حيث الشكل عن قبول الانعزاليّة اللبنانيّة في لبنان المعاصر بصيغة «لبنان ذو وجه عربي»، أي أن الصيغة تلتزم بعكس ما تُعلن — فإعلان قبول الوجه العربي هو جانب آخر من إعلان الإيمان بـ «الجسم غير العربي». وقد صدف إعلان جهاز «امن الدولة»، الناشط حديثاً، مع سجالات لم تتوقّف عن التطبيع ومواجهته في لبنان. وهناك قطاع ثقافي وفنّي نافذ أعلن تنصّله من مشروع المقاطعة، بعدما تنصّلت كل الدول العربيّة بعد مدريد (وفقاً لاتفاق سعودي ـ أميركي سرّي) من المقاطعة العربيّة بكل درجاتها، باستثناء الدرجة الأولى منها. والوسط الثقافي السائد، وهو مرتبط وظيفيّاً إما بإعلام الخليج أو بالمنظمّات غير الحكوميّة ذات التمويل الغربي، أجمع على رفض مقاومة التطبيع وأصبحت المُطالبة بالتطبيع السياسي والثقافي مُجاهرٌ بها. فالبطريرك الماروني الذي لا يتفقّد رعيّته في أنحاء لبنان إلا لِماماً، بات يصرّ على تفقّد الرعيّة المارونيّة في فلسطين دوريّاً. والتواصل بين الكنيسة في بكركي وفي فلسطين كانت منذ إنشاء الدولة الاحتلاليّة المعبر المعروف للتواصل بين العدوّ وبين البطريركيّة.
إنها علامة فارقة أن جوقة معارضة التطبيع مع العدوّ ربطت نفسَها هذا الأسبوع بمشروع رفض تهمة رسميّة ساقها جهاز أمني لبناني ضد مواطن بتهمة التجسّس لصالح العدوّ الإسرائيلي. لو أن التشكيك (وهو صحّي عموماً) هو ديدن هذا الفريق السياسي والثقافي، لما كان ارتاب المرء به. إذ إن نفس هذا الفريق رفضَ ويرفضُ أي تشكيك بمحكمة الحريري التي خرقت كل حدود التسييس في تاريخ المحاكم المحليّة والدوليّة. وفي قضيّة الضبّاط الأربعة وفي قضيّة ميشال سماحة، اعتبر كل هؤلاء ان أي تشكيك في التهمة — قبل الإدانة — يُعتبر مشاركة فعليّة في الجريمة. وتسريبات «فرع المعلومات» في قضيّة سماحة لم تُقابل بالاستهجان أو الاعتراض او التشكيك. على العكس: فإن تصريحاً واحداً لمحمد رعد طلب فيه التريّث في الحكم على سماحة اعتُبر في لحظته مشاركة منه في الجريمة. وهناك قضيّة رفعت عيد، وهو مواطن لبناني ورئيس حزب، وقد أُبعدَ عن لبنان بتهم لم تثبت صحّتها، وهي انبثقت عن فريق سياسي أبعد ما يكون عن تنزيه المحاكم وعدلها (النظري). لكن هذه القضيّة، أي قضيّة زياد عيتاني، قوبلت بكم هائل من التشكيك والسخرية، مع أن التهمة لا يتحمّل مسؤوليّتها لا عائلة ولا طائفة ولا فريق زياد عيتاني السياسي. لكن هناك مواقع لبنانيّة إخباريّة لا تصدّق أنه يمكن أن يكون هناك عميل لإسرائيل، وبعض المواضع يحتضن ويُبرِّئ كل عميل متهم أو محكوم — باستثناء فايز كرم لأن قضيّته تشين فريق سياسي مُغاير للوسط الثقافي الإعلامي.
هناك ظاهرة انتقال سياسي فجائيّة من أقصى اليسار والقوميّة العربيّة إلى اليمين. وهناك كتّاب اعتنقوا خطاب المقاومة في صحف موالية للمقاومة، ثم ذمّوا تلك الصحف والمقاومة بعد انتقالهم إلى صحف حريريّة وسعوديّة وقطريّة. والانتقال هذا (يندر أن ينتقل المرء في بلادنا من اليمين إلى اليسار، أو من معارضة المقاومة إلى مناصرتها لأن المال يسري في اتجاه واحد: المكافآت سخيّة لمن ينقلب على المحور المقاومة، والمال لمن ينقلب في الاتجاه الآخر زهيد للغاية). وجهاد الخازن، الذي تلقّى منزلاً في حي فخم هديّةً من خالد بن سلطان يشكو في فصل الصيف من زحمة السيّارات في مدينة كان حيث يملك منزلاً صيفيّاً. لكن الذين ينتقلون من المعسكر الشيوعي أو المقاومة إلى المعسكر الآخر لا يشرحون أسباب الرحيل والانتقال، ما يجعل من الانتقال سهلاً ومريحاً حتى لذوي الأغراض الخبيثة في الانتقال. والعدوّ لا يفرّق في اختراقاته بين العقائد: فهو يجندّ في صفوف أحزاب مختلفة: حسن هاشم، نائب سابق لرئيس حركة «امل» أدين بالسابق بالتعامل مع العدوّ مقابل المال، كما أن العدوّ جنّد شيوعيّين في التسعينيات 8.
أما التشكيك في تفاصيل القضيّة الحاليّة فهو في جانب منه غير بريء، وفي جانب منه إفراز لحالة من الإفراط في تقدير فعاليّة تجسّس واختراق العدوّ. ليس العدوّ على الدرجة من المهارة في تجسّسه الذي ينسبه إلى نفسه، والذي تسرّب — اختراقاً — إلى الثقافة العربيّة. في مقالة قبل أيّام في مجلّة «فانيتي فير» عن تجسّس الـ«موساد» على «داعش»، عجزت المقالة عن العثور على إنجاز حقيقي واحد ومُثبَت لها في هذا المجال. على العكس، فإن المقالة كانت تنضح بالدعاية المباشرة للـ«موساد»، إلى درجة أن الكاتب، هوارد بلوم، احتاج أن يذكّر بأن الـ«موساد» هي التي هرّبت نصّ الخطبة السريّة لخروتشوف في عام ١٩٥٦ إلى المخابرات الأميركيّة. لم يعد لديه ما يزهو به إلا تلك الخطبة من التاريخ. والذي يراجع ملف التحقيق في قضيّة «إيلي كوهين» يجد أن العدوّ لم يحسن إعداد جاسوسه 8: فقد كان يتحدّث العربيّة بلهجة عبريّة كما أنه تلقّى تدريباً في الدين الإسلامي لكنه فشل في تلاوة الفاتحة بعد اعتقاله (وكان معتقلوه يظنّون في الوهلة الأولى أنه مسلم سوري وليس يهوديّاً إسرائيليّاً). واختراق مواقع التواصل الاجتماعيّة من الـ«موساد»، ليس سرّاً خصوصاً وان شركات التواصل الاجتماعي على صلة وثيقة بأجهزة مخابرات أميركا ودول الخليج ودولة العدوّ. وكم يتلقّى العديد منّا طلبات صداقة من صفحات تعلوها صورة لفتاة في ملابس كاشفة، وتتحقّق من الصفحة وتجد أن الفتاة لا أصدقاءَ لها إلا نحو ١٧٠٠ رجل عربي فقط. هناك ما يثير الكثير من الريبة. والسؤال الذي لم يكشف عنه جهاز «أمن الدولة» هو: إذا كان لبناني واحد قد استجاب لـ«تحرّش» عميلة الـ«موساد»، فهذا يعني ان هناك مَن لم يتجاوب معها. اين هؤلاء؟ يمكن للذين لم يستجيبوا لمحاولة التجنيد من العميلة الاسرائيليّة أن يساعدوا في التحقيق لكن أحداً منهم لم يتقدّم علناً بالتصريح عن تجربته معها.
من المشكوك فيه أن يؤدّي التحقيق إلى نتيجة فعليّة في ظل محاربة قويّة لمجرّد التحقيق مع مواطن متهم بالتعامل مع العدوّ. وبولا يعقوبيان، التي أكالت المديح قبل أيّام فقط للمملكة السعوديّة، حذّرت—بسبب توقيف زياد عيتاني على ذمّة التحقيق—من تشكيل «دولة بوليسيّة»—كل ذلك بسبب التوقيف. وعائلة العيتاني في بيان رسمي اتهمت كل الشعب اللبناني بخيانة لبنان لصالح إسرائيل عندما قالت: «مَن منكم بلا خيانة…فليرمِ» غيره بالخيانة. وفريق الممانعة في لبنان تساهل كثيراً جداً في قضيّة فايز كرم (الذي بدأ تجسّسه أو تعامله أو تخابره — والقانون اللبناني يُجرّم كل هذه التصنيفات — في موقعه في الجيش اللبناني)، ولم يطالب بتطبيق العقوبة القصوى ضد ضابط في الجيش اللبناني خانَ قسمه. والفريق الآخر ناصرَ هو الآخر مهندس لبناني «ساعد» العدوّ من خلال وظيفته في شركة اتصالات.
عبثاً، نحاول. عارُ مرجعيون يلاحقنا ويقبّح التاريخ والمستقبل. لا يمكن توخّي العدل من الدولة في مواضيع مواجهة ومقاومة العدوّ. لكن الأجندة الأميركيّة تطالب بتأميم السلاح كي تضمن عدم توجّهه نحو صدر العدوّ (حتى سلطة «أوسلو» ترفع شعار احتكارها للسلاح الفلسطيني مع أن عبّاس يكرر صبح مساء معارضته للصراع غير السلمي والمُستسلِم). لم تكن المقاومة يوماً مشروع دولة. هي مشروع خارج عن الدولة ولا تنجح أي مقاومة في كنفه. والذين خصخصوا مقاومة العدوّ—أي الذين تطوّعوا للمقاومة من تلقاء انفسهم—لم يفعلوا ذلك إلا لعلمهم أن الدولة غير منخرطة في المقاومة (لا بل كانت في تلك الحقبة تلاحق وتعاقب المقاومين وتسلمهم للعدوّ). إن خصخصة المقاومة وحدها نجحت في إذلال العدوّ في كل تاريخ الصراع ضد العدوّ الإسرائيلي. وقد تكون معاقبة ومحاكمة التعاون والتجسّس والإرهاب لصالح العدوّ الاسرائيلي يحتاج هو أيضاً إلى خصخصة. هناك ما لا يُمكن الركون للدولة في إدارته.