Site icon IMLebanon

وثائق إسرائيلية عن صبرا وشاتيلا: خطّطنا للقضاء على كل شيء!

  

 

لا يحتاج اللبنانيون والفلسطينيون إلى وثائق إسرائيلية لكشف الدور الذي لعبته إسرائيل قبل ارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا في أيلول 1982 وخلالها وبعدها. ولا يوجد أي التباس حول هوية المجرمين من اللبنانيين والصهاينة. وحتى في كيان العدو، لا يوجد أي شبهة حول دور جيش الاحتلال في المذبحة، ولا حول دور وزير الأمن آنذاك أرييل شارون الذي أشرف على قتل آلاف المدنيين من الفلسطينيين واللبنانيين.

 

لكن اللافت في ما كشفه معلق الشؤون الأمنية رونين بيرغمان، أول من أمس، في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، من وثائق ومعطيات، هو المساعي التي بذلها كبار قادة العدو والكتائب في نسج روايات مختلقة لطمس الجريمة، والتي وصلت إلى حد اقتراح أن الشهداء قتلوا بعضهم بعضاً، وأن الجريمة كانت مجرد حالة غضب أو فقدان السيطرة، في مؤشر إلى المدى الذي يمكن أن يبلغه العدو وعملاؤه في اختلاق الأكاذيب، حتى عندما يتعلق الأمر بحدث بهذا الحجم، وهوية المجرمين فيه واضحة.

 

في كل عام تحل فيه ذكرى «الحرب الأولى»، في مثل هذه الأيام، يجري التداول في وقائع تلك الحرب. وليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها تناول مجازر صبرا وشاتيلا في الإعلام الإسرائيلي. إلا أن هناك أهمية خاصة للاطلاع على ما جرى في الغرف المغلقة في الجانب الإسرائيلي وعملائه، وعلى الأفكار التي طُرحت لاحتواء مفاعيل المجزرة.

 

 

من أبرز الحقائق التي ينبغي أن تبقى حاضرة في الوجدان أن مجزرة صبرا وشاتيلا لم تكن مجرد رد فعل على مقتل الرئيس بشير الجميل، وإنما أيضاً ترجمة لقرار مدروس يهدف إلى كي وعي الشعبين الفلسطيني واللبناني، وهو ما كانت تتطلبه مخططات مرحلة الاحتلال الإسرائيلي، أولاً من أجل ضمان احتلال آمن، وثانياً لتعميق الشعور بالهزيمة وتحويلها إلى هزيمة نفسية تُمهِّد الأجواء لفرض وصياغة ترتيب سياسي وأمني وفق ما هو مخطط أميركياً وإسرائيلياً.

 

ومن المعطيات الجديدة ما تناوله تقرير بيرغمان عن خطط بين رئيس أركان الجيش، رفائيل إيتان، وحزب الكتائب لاحتلال بيروت بعملية عسكرية مشتركة أطلق عليها تسمية «الشرار»، وحديث شارون في 11 تموز 1982، عن أنه «ينبغي القضاء على القسم الجنوبي (من بيروت الذي توجد فيه المخيمات الفلسطينية ومقاتلو منظمة التحرير). يجب القضاء على كل ما بالإمكان القضاء عليه، وتدميره من أساسه». وهو ما يؤكد أن العدو حوَّل مقتل بشير الجميل إلى ذريعة لتنفيذ خطط جارور جاهزة، فحصل شارون، بحسب التقرير، على مصادقة بيغن لاحتلال بيروت، لكن الحكومة الإسرائيلية أُبلغت بذلك بعد احتلال العاصمة اللبنانية.

إلا أن هول المجزرة وبشاعتها شكلا صدمة للرأي العالم العالمي آنذاك، ودفع تحميل إسرائيل المسؤولية برئيس الأركان إيتان وقائد المنطقة الشمالية أمير دروري ونائب رئيس الموساد ورئيس شعبة «تيفِل»، المسؤولة عن العلاقات الخارجية للموساد، مناحِم نافوت، للمسارعة إلى عقد اجتماع في 19 أيلول 1982، بعد يومين من المجزرة، في قلب بيروت مع قادة حزب الكتائب. ولم تكن الجلسة من أجل توبيخ من نفذ المجزرة بل للتدارس حول سبل اختلاق الروايات والأكاذيب، كما يكشف محضر الجلسة، بما يخفف من وطأتها بعد الصدى الذي أخذته في أعقاب نشر صور جثث الأطفال والنساء. وتخوف قادة العدو من أن يؤدي ذلك إلى ممارسة ضغوط على إسرائيل لإجبارها على الانسحاب من بيروت. وتنوعت الاقتراحات والروايات، بين ما اقترحه إيتان، بأن الكتائب كانت تقوم «بمهمة (قتال عناصر منظمة التحرير في المخيمين) وما حدث كان خارجاً عن سيطرتكم». فيما طرح قائد المنطقة الشمالية في جيش العدو، اختلاق رواية «إنه في الأماكن التي دخلتم إليها كانت تجري معارك بين معسكرات داخل المخيمات وليس مع الكتائب فقط». بهدف الإيحاء أن قسماً من الضحايا قتلوا بنيران اشتباكات داخلية في المخيمات!

 

 

مع ذلك، فإن النشوة التي سادت قادة العدو باجتياح لبنان وإنتاج سلطة سياسية تابعة لإسرائيل والولايات المتحدة لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما توالت عمليات المقاومة التي حولت أحلام شرق أوسط جديد من بوابة لبنان، كما طمحت واشنطن وتل أبيب، إلى مستنقع يلتهم الجنود الصهاينة. وحولت رئيس وزراء العدو مناحيم بيغن، على وقع الخسائر المتواصلة، كما يكشف بيرغمان إلى «شخصية تعاني من اكتئاب حاد… وفاقد للاتصال مع من حوله… وأصبح معزولاً عن الواقع… وانطوى على نفسه بعدما فهم أن شارون خدعه وغرقت إسرائيل في مستنقع». وهو ما يُفسر استقالته من منصبه في أيلول 1983.

 

الحرب التي خاضتها إسرائيل بتفوقٍ كمّي ونوعي واستعدت لها طويلاً وحظيت بشرعية جماهيرية تحولت إلى واحدة من أخطر الكوارث عليها

 

 

وفي السياق نفسه، يكشف رئيس الموساد في ذلك الحين، ناحوم أدموني، الحالة التي انحدر إليها بيغن على وقع الخسائر البشرية المتراكمة في صفوف جنود العدو «كنت أبدأ بالتقرير وأرى أن عينيه مغلقتان، ولا أعرف ما إذا كان يسمع ما أقوله له ، أو لا. هل هو نائم؟ هل هو مستيقظ. كان وضعاً محرجاً للغاية. والجميع يعلم أن الأمر كان كذلك لكن تم إخفاء الأمر عن الجمهور الإسرائيلي». وفي الاتجاه نفسه أتى كلام سكرتير الحكومة خلال اجتياح عام 1982، دان مريدور، «لقد رأيت بيغن منطوياً على نفسه، يتألم من الحرب التي وصفها بأنها كانت مأساة…».

 

 

وهكذا تحولت الحرب التي خاضتها إسرائيل، بحسب توصيف بيرغمان، للمرة الأولى بتفوقٍ كمّي ونوعي ملحوظ، واستعد لها طويلاً الجيش الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات، وحظيت في البداية بشرعية جماهيرية واسعة جداً، إلى واحدة من أخطر كوارث إسرائيل. وبالفعل غيرت الشرق الأوسط، لكن ليس في الاتجاه الذي خططت له إسرائيل. ويختم بيرغمان، ساخراً، من الحرب التي كان نجاحها فوق المتصور، بحسب تعبيره: «لقد أسسوا في لبنان الذراع الطويلة لإيران ونشر الثورة الإسلامية، حزب الله. فيما تحوَّل أرزّ القرويين، الذي أُمطر على قوات الجيش الإسرائيلي عندما دخلت إلى لبنان، إلى مطرٍ من نيران قنابل يدوية وعبواتٍ جانبية». وينقل عن نائب رئيس الوزراء خلال الحرب، سيمحا آرليخ، تبريره لهزيمتها في لبنان، بالقول: «لم يخبرونا أن هناك هذا العدد الكبير من الشيعة!».

 

نص محضر 19 أيلول 1982 عن مجزرة صبرا وشاتيلا

 

إيتان: قولوا إن ما حصل كان خارج السيطرة

أبو خليل: لن نعترف بالمسؤولية وسنواصل النفي

 

 

في ما يلي نص المحضر الذي يشير إليه الصحافي الإسرائيلي كـ»بروتوكول سري»، والذي يتضمن ما يسميه النقاش الذي جرى بعد أيام من المجزرة التي ارتكبت في مخيم صبرا وشاتيلا بمشاركة قوات الاحتلال وعناصر من حزب الكتائب.

«في 19 أيلول 1982، في الساعة 12:00 ظهراً، وصل رئيس الأركان رفائيل إيتان وقائد المنطقة الشمالية أمير دروري ونائب رئيس الموساد ورئيس شعبة «تيفِل»، المسؤولة عن العلاقات الخارجية للموساد، مناحِم نافوت، برفقة حاشية والكثير من المرافقين، إلى اجتماعٍ سري في قلب بيروت مع قادة الكتائب (اللبنانية). إيتان، بحسب أحد المشاركين في الاجتماع، كان غاضباً جداً.

 

 

 

كان لديه سبب. الاجتماع عُقد بعد يومين على المجزرة الرهيبة التي ارتكبها عناصر الكتائب بحق سكان مخيمي صبرا وشاتيلا انتقاماً من اغتيال زعيمهم، الرئيس اللبناني المنتخَب بشير الجمّيل، على يد الاستخبارات السورية، قبل ذلك بخمسة أيام. العالم ثار في أعقاب مشاهد مئات الجثث الممزقة، بينها نساء وأطفال، واتّهم إسرائيل. إيتان ونافوت فهما أن خطتهما أصبحت حرجاً كبيراً ووصمة على دولة إسرائيل سيكون من الصعب التخلص منها.

الإسرائيليون جاؤوا لتقليص الأضرار. المسائل الأخلاقية عنت إيتان بصورة أقل. لم يُرد توبيخ قادة الكتائب على ما فعلوه، بل كي ينسّق معهم صيغة لرواية تُقدّم للعالم. «العالم عاصف مما حدث في شاتيلا ويجب على ممثلهم أن يظهر ويشرح لوسائل الإعلام ما الذي حدث هناك، لأن الجميع يوجّهون أصابع الاتهام إلى إسرائيل. والنتيجة التي يمكن أن تنتج من هذا هي إجبارهم الجيش الإسرائيلي على الخروج من بيروت. لذلك، يجب على أحدكم أن يوضح الموضوع بسرعة»، يحاول إيتان أن يُملي على الكتائب ماذا تقول، «الصيغة يجب أن تكون كالآتي: إنهم شاركوا في مهمة (قتال عناصر منظمة التحرير في المخيمين) وما حدث كان خارجاً عن سيطرتهم».

 

 

أمير دروري اقترح: «في نفس المناسبة، التذكير بما حدث في الدامور»، (مجزرة السوريين بحق المسيحيين)، من أجل الموازنة. «كذلك التوضيح أن هذه ليست سياستكم. يمكن الذكر أن الأماكن التي دخلوها كانت فيها معارك بين معسكرات داخل المخيمين وليس فقط مع الكتائب».

بعبارة أخرى، رغم أن دروري يعلم جيداً أن الكتائب هي التي ارتكبت المجزرة، فإنه يقترح رواية كاذبة، على الأقل بنسبة جزءٍ من القتلى إلى حروبٍ داخلية بين سكان المخيمين. وهكذا استمر الاجتماع: نافوت، الذي دعم بحماسة ضم الكتائب إلى القتال مع الجيش الإسرائيلي (ثم تنكّر بعدها لكل شيء)، اعتمد هذه المرة نبرة تهديدات: «(الكتائب) عليهم أن يوضحوا أن ما حدث شاذ، وأن هذا حدث بعد قتل بشير. أعتقد أن هذا ما هو صحيح ولا يمكن أن نقاتل نحن (لأجلكم) في هذا الموضوع. لأنه إذا كنا نحن فقط من سنضطر للشرح، سنشرح ما نريد».

جوزف أبو خليل، أحد قادة الكتائب ردّ بغضب: «في الحقيقة ما تريدونه أنتم هو أن نأخذ الموضوع على عاتقنا وفي الوضع السياسي الحالي من غير الممكن…».

إيتان: «ما الذي تقترحه؟».

أبو خليل: «لا تتهمونا. وجّهوا وسائل إعلامكم… عدم إلقاء المسؤولية على الكتائب، على الأقل في الأيام القريبة، من أجل كسب وقتٍ سياسي».

إيتان: «الحقيقة هي أن الجميع يعلمون أنها كانت الكتائب، ويجب التوضيح أن هذا ليس سياسة وما حدث كان خارج السيطرة، ولذلك، في اللحظة التي علموا فيها ما الذي يحدث أوقفوا الموضوع… وسائل إعلامنا حرة ويمكنها أن تقول ما تشاء».

 

مرة أخرى يحاول إيتان أن يقترح تفسيراً كاذباً على الكتائب: «أوضِحوا أن هذا ليس سياستكم. ما حدث هو تفجّر غضب جنود بعد قتل بشير».

أبو خليل: «تجب معالجة هذا بصورة يومية، بصورة ضبابية، وفق ما يحدث في وسائل الإعلام. لا يمكننا الاعتراف بأن الكتائب ارتكبتها».

إيتان: «كيف تريدون أن توضحوا هذا؟».

أبو خليل: «مواصلة النفي».

إيتان: «كيف يمكن؟ إذ إن كل المخيمات تعجّ بصحافيين».

أبو خليل: «افعلوا ما تفهمونه أنتم ونحن سنفكّر كيف نرد. ولا مرة اتّهمنا إسرائيل. أمس في التلفزة اقتبسوا شخصية إسرائيلية اتّهمت الكتائب».

في هذه المرحلة ثار غضب إيتان وختم الجلسة: «أوضحنا رأينا وهم سيفكّرون وسيقررون، لكن الحقائق معروفة».