لم يفهم كثير من المراقبين التقلبات التي أصابت الموقف الاسرائيلي حيال ملف الترسيم البحري مع لبنان، فبعد التفاؤل المفرط مطلع الصيف، عادت الامور الى المساحة التشاؤمية ربطاً بالانتخابات الاسرائيلية وانعكاسات الترسيم على مزاج الناخب الاسرائيلي. لكن فجأة تدخّل الرئيس الاميركي جو بايدن مباشرة مع رئيس الحكومة الاسرائيلية طالباً إنهاء ملف الترسيم سريعاً جداً وقبل حلول موعد الانتخابات الاسرائيلية لا بعدها.
وبعيداً عن «السخافة» اللبنانية والتي تضع ملف الترسيم في اطار ضيق جدا كمثل حرمان رئيس الجمهورية من انجاز في نهاية عهده، فإنّ مصالح الدول الضخمة وسط ساحة معقدة ومتشابكة وتشهد تحولات كبيرة، تفرض على المراقب توسيع «بيكاره» قليلاً للاقتراب مما هو حاصل فعلاً. ما من شك انّ الحرب التي اندلعت في اوكرانيا شكلت احدث اختبار لمزاج بلدان الشرق الاوسط واصطفافاتها حول المنافسة العالمية المستجدة، حتى ولو كانت اوكرانيا بعيدة جغرافياً عن ساحات الشرق الاوسط.
فروسيا التي باتت معاناتها تزداد في اوكرانيا، كانت قد دشّنت دورها العالمي الجديد من خلال تدخلها العسكري في سوريا ويومها سجلت نجاحاً كبيراً وفرضت نفسها لاعباً اساسياً وقوياً ليس فقط في سوريا، بل ايضاً في كل الشرق الاوسط. وهذا ما دفع بتركيا الى محاذرة استفزازها، وايران لمسايرتها، واسرائيل لإنشاء علاقة عسكرية وامنية متينة معها، ودول الخليج للالتفات الى اهمية الوافد الجديد الى المنطقة.
صحيح انّ دول الخليج تتمتع بعلاقة تشاركية مع واشنطن قائمة على اساس الحماية التي تؤمنها المظلة الامنية الاميركية، لكن ثمة مصالح اضافية مهمة لدول الخليج موجودة من خلال الاقتراب من الصين وروسيا كان لا بد من الالتفات اليها.
لكن الحرب في اوكرانيا، والتي كان عنوانها الفعلي تكريس نظام عالمي تعددي جديد، أخفق فيها الجيش الروسي، وبَدا فاقداً للهيبة التي كانت تحيط به.
لكن المشكلة هي ابعد من ساحات معارك اوكرانيا، فأحد الانجازات الضخمة التي كانت موسكو قد حاكَتها على الساحة الاوروبية، هي بربط الدول الاوروبية الصناعية بالطاقة الروسية وهو ما يعني ضمناً جعل القرار الاوروبي واقعاً تحت تأثير موسكو خشية قطع الطاقة الروسية.
لكن الهجوم الروسي على اوكرانيا أيقظَ لدى الدول الاوروبية الصناعية مخاوف امنية وعسكرية من روسيا، ودفع بها للعمل على الخروج من دائرة الحاجة النفطية الروسية وارتباطها الحيوي بموسكو، والبحث عن بدائل اخرى، ولو تطلّب ذلك تضحيات كبيرة في البداية، خصوصاً انّ الحرب الروسية في اوكرانيا جَيّشت الشارع الاوروبي ضد موسكو ما يجعله قابلاً لتقديم بعض التضحيات في المرحلة المقبلة. لذلك شرعت المانيا في تطبيق خطة انفصالها عن الغاز الروسي بعد فترة من التردد. وبالتالي، فإن خسارة روسيا الحقيقية ليست في معارك اوكرانيا، بل بفك ترابط الدول الاوروبية الصناعية بها. من هنا يمكن تفسير تلويح بوتين باستعمال الاسلحة النووية كتعبير عن انسداد الافق أمامه والدعوة ولو بطريقة التهويل للذهاب الى تسوية شاملة في اوروبا.
وتدرك المانيا او العاصمة الاقتصادية لأوروبا أنّ صناعتها ستتأثر في شكل اساسي في الفترة الاولى. وعندما أوقفت موسكو شحنات الغاز الى اوروبا نهائياً، جاءت خطوتها متأخرة بعض الشيء كونها كانت في حاجة الى تمويل آلتها العسكرية في اوكرانيا.
لكنّ المانيا التي كانت قد ملأت نحو 86 % من خزّاناتها ومرافق التخزين، ضمنت فترة شهرين من أشهر الشتاء، وسَعت للتعويض من خلال شحنات من النروج وهولندا.
وبناء على المنحى الجديد للصورة الاوروبية، بوشِر بإعادة ترتيب الساحة الشرق أوسطية والتي يشكل لبنان حلقة اساسية منها. فزار الرئيس الاميركي السعودية ساعياً لإصلاح العلاقة المتأزمة، ومُطلقاً شعاره الشهير: «لن تترك واشنطن مساحات فارغة في الشرق الاوسط ستعمل موسكو وبكين على ملئها».
وعملت واشنطن على وضع خطة تعاون عسكري كامل موضع التنفيذ بين القوات الاميركية وجيوش بلدان الخليج اضافة الى بلدان عربية اخرى واسرائيل.
في السابق، كانت واشنطن ترفض رفع مستوى التنسيق، اما اليوم فباتت الصورة مختلفة. وفي الوقت نفسه قررت الرفع الكامل لحظر الاسلحة المفروض منذ عقود على جزيرة قبرص المقسمة، ولكن بشرط ان تواصل نيقوسيا منع السفن الحربية الروسية من دخول موانئها. فواشنطن تنظر الى إحكام السيطرة على شرق البحر المتوسط بكامله.
في المقابل حصل تقارب روسي ـ تركي كونهما متضررتين من القرار الاميركي تجاه قبرص.
ووقّعت دمشق اتفاقاً جديداً يسمح لشركتين روسيتين ببدء التنقيب عن الغاز في المياه الاقليمية السورية. وعلى الموجة نفسها سعت تركيا لرفع مستوى تقاربها مع اسرائيل بتشجيع روسي، وقيل ان اردوغان ينوي زيارة اسرائيل لكن بعد الانتخابات الاسرائيلية، ولهذا معناه العميق.
ووفق هذه الصورة يجب مقاربة ملف الترسيم البحري للبنان، وخصوصاً التفسير المتأني جداً لموقف «حزب الله»، ولذلك غلب التساؤل حيال جدية قراره بالذهاب الى الحرب، قبل ان تتضح الصورة. والسؤال الذي طرح في الكواليس، ما اذا كانت خلفية موقف «حزب الله» إيرانية ام بطلب روسي؟
لكن الادارة الاميركية، والتي كانت قد سلّمت بتأجيل ملف الترسيم الى ما بعد موعد الانتخابات الاسرائيلية، عادت وعدّلت في موقفها نتيجة لما وصلها من معلومات. ذلك ان روسيا، والتي تتمتع بتأثير على مزاج شريحة واسعة من الاسرائيليين من اصول روسية والذين يُقدّر عددهم بأكثر من مليون شخص، وهو ما ثبت عند اكثر من محطة انتخابية سابقاً، باشَرت بالاعداد لدفع الناخبين الاسرائيليين من اصول روسية الى تأييد بنيامين نتنياهو الذي بدأ يسجّل تقدماً لافتاً على خصومه.
لذلك ارتأت الادارة الاميركية الاسراع في حسم ملف الترسيم البحري طالما ان نتيجة الانتخابات باتت شبه محسومة، وتجنّب مماحكات نتنياهو بعد عودته الى السلطة تسديداً لفواتير انتخابية لموسكو، والتي تريد تضييق الخناق على اوروبا لا تأمين موارد جديدة لها.
أضف الى ذلك انّ فلاديمير بوتين يريد توجيه صفعة الى الائتلاف الحكومي الحالي والذي وقف ظاهرياً في الوسط، لكنه كان اكثر ميلاً للرئيس الاوكراني زيلينسكي. ووفق التجربة فإنّ نتنياهو كان أكثر تماهياً مع السياسة الروسية، وهو ما أسّس لعلاقة تحالفية ممتازة في سوريا.
وفي الوقت نفسه تشكل عودة نتنياهو هاجساً لإدارة بايدن التي ستتراجع علاقتها بالحكومة الاسرائيلية في حال صحّت توقعات فوزه. لكنّ هذا يستوجِب في الوقت نفسه بعض القلق لـ»حزب الله». فالواضح ان عودة نتنياهو على رأس حكومة من صقور اليمين ستعيد فتح الابواب امام تصاعد الاستهدافات الجوية في سوريا ضد ايران وحلفائها، خصوصا ان تركيا تفتح يديها لملء الفراغات الناتجة عن انسحاب الوحدات الروسية على حساب الحضور والنفوذ الايرانيين.
أضف الى ذلك انّ موسكو تأمل من عودة حكومة يمينية برئاسة نتنياهو الشغب، وعرقلة الاتفاق النووي الذي اصبح جاهزاً للتوقيع، لكنه ينتظر التوقيت الملائم.
لأجل ذلك يلحّ «حزب الله» على حكومة كاملة المواصفات لتظلل مرحلة الشغور الرئاسي، فالرياح المتوقعة في سوريا وشهوات نتنياهو وسياسته العدوانية والتي في جانب منها قد يذهب الى حدود التمريك على واشنطن في لبنان، تستوجب غطاء شرعياً قادراً على مساعدة «حزب الله» في وجه هذه المخاطر والتحديات.
غداً «سيستمتع» بعض الديبلوماسيين الغربيين خلال متابعتهم للتوظيف السياسي اللبناني الداخلي الباهت والساذج عند توقيع اتفاق الترسيم البحري، خصوصاً بعدما غالى البعض في تصوير الترسيم من عدمه في إطار مؤامرة كونية عليه وحده. وكأن ليس للدول مصالح هائلة تتبعها، بل «نكايات» وتنافس طابعه «طفولي». المهم انّ الاجواء الملائمة للترسيم ولتجديد شباب الحكومة يساعدان لبنان مرحلياً، ولو انّ المخاطر الاقليمية موجودة.