اعتادت «إسرائيل» طويلاً، في مواجهة أعدائها وخصومها في المنطقة، أن تفرض إرادتها عليهم عبر اللجوء الى الخيارات العسكرية في حالات يشهد التاريخ عليها. كانت أحياناً تفرض إرادتها بمجرد التلويح بهذه الخيارات، بل إن قدرتها وعدائيّتها حفرت عميقاً في الوعي العربي، الى الحدّ الذي مكّنها من فرض إرادتها، حتى دون التلويح بخياراتها العسكرية. وما تدّعيه من حق لها في المياه اللبنانية جنوباً، ليس استثناءً.
الواقع، كما هو، بات مغايراً. أسئلة السلوك الإسرائيلي، قبل التفاوض على الحدود البحرية مع لبنان وخلاله، وما يعقبه، لا تتوقف، وإنْ كانت تتركز كلها على الآتي: كيف لـ«إسرائيل»، التي تؤمن بمنطق القوة والتهديد باستخدامها لتحقيق ما تريد، تصمت عن تهديد لبنان، بكل ما يتعلق بالحدود البحرية والثروة الغازية؟ ما هي الأسباب التي تدفع «إسرائيل»، بمسؤوليها السياسيين والعسكريين، وكذلك بإعلامها ومعلّقيها وخبرائها، كي تصمت عن التهديد العسكري وتبتعد عنه، حتى وإن كان الهدف منه خدمة الموقف التفاوضي الذي تسعى الى تعزيزه في مواجهة لبنان على طاولة التفاوض، وهي التي تفضّل، ودائماً ما كانت تفضّل، إقران التهديدات بأيّ تفاوض، لإضعاف موقف الطرف الآخر، ودفعه إلى التنازل؟
في واقع الأمر، صمت «إسرائيل» عن التهديد، هادف ويخدم أكثر من اتجاه ومستوى، وخاصة أنه مقرون، دائماً، بمحاولات للتفاوض بين الجانبين، بصورة غير مباشرة أو مباشرة، لإيجاد فرصة لتحقيق حل تسووي مع الجانب اللبناني، وكذلك أيضاً وهو الأهم في مرحلة ما قبل تحقيق النتائج التفاوضية، صورة التفاوض نفسه التي تحرص «إسرائيل» عليها، وتعمل على تظهيرها مضخمة. كل ذلك مبنيّ على أمرين:
لا قدرة لـ«إسرائيل» على فرض إرادتها على لبنان عبر الخيارات العسكرية، فضلاً عن التلويح بها. واللاقدرة هنا لا تتعلق بمكوناتها المادية، بل بتداعياتها السيئة على مروحة واسعة من المصالح الإسرائيلية، إذ إن التهديدات الكلامية، تعقبها تهديدات مقابلة من ناحية لبنان (حزب الله)؛ في حين أن تطور التهديدات باتجاه تنفيذها، تتسبّب بتفعيل القدرات العسكرية الردّية لدى حزب الله. وفي كلتا الحالتين، الأضرار في الجانب الإسرائيلي كبيرة جداً، وربما لا تحتمل. وفي مستويات مختلفة، لا يمكن أن تقتصر على الضرر المادي لمنشآتها في عرض البحر، بصرف النظر عن الأضرار التي ستلحق بلبنان.
لدى «إسرائيل» قطاع غازيّ بات واسع النطاق، ولم يعد في مراحله الأولى، بل بات يشبع حاجة السوق الداخلي. وهي تعمل، نتيجة ثروتها الغازية، على تغيير طابع اقتصادها ليحل الغاز فيه مكان النفط ومشتقاته، سواء ما يتعلق بالطاقة الكهربائية أو بغيرها من موارد استهلاك الوقود الأحفوري السائل. وإضافة الى حاجات الداخل، باتت تصدّر الغاز الى سوقين عربيين كبيرين نسبياً: مصر والأردن، وهي تتطلّع الى أسواق جديدة.
في الوقت نفسه، دفعت «إسرائيل»، عبر اختيار جنسيات شركات التنقيب واستخراج النفط وتسييله ونقله، أي الشركات الأميركية، الى تعزيز موقعها ومنعتها وضمان إشراك الولايات المتحدة في الدفاع عن “حقوقها” وكل ما يرتبط بتطلّعاتها في القطاع. ومصالح «إسرائيل» التي هي تقليدياً محل اهتمام أميركي خاص، باتت الآن بموجب هوية الشركات الأميركية في قطاع الغاز، موضع اهتمام معزز وبمستويات تراعي فيها واشنطن المصلحة الغازية الإسرائيلية رعايتها لمصالحها هي المباشرة.
كذلك، تتطلّع «إسرائيل» الى «التشبيك» مع أبرز “اللاعبين” الجدد في قطاع الغاز في الحوض الشرقي للمتوسط، عبر اتفاقات شراكة تجعل من رعاية وحفظ غازها وأمنه وتأكيد استثماره وديموته، جزءاً لا يتجزأ من مصالح الآخرين في المنطقة. سواء ما يتعلق بقبرص، الدولة الواعدة في قطاع الغاز، أو ما ينسحب بالضرورة على الجانب اليوناني للعلاقة العضوية بينه وبين الجانب القبرصي اقتصادياً وسياسياً. فيما عمدت بمعيّة الراعي الأميركي لمصالحها الاقتصادية، الى ربط السوق المصري والأردني بآبارها الغازية لفترات طويلة جداً، الأمر الذي يجعل من أمن «إسرائيل» ومصلحتها الغازية، جزءاً لا يتجزأ من الأمن الاقتصادي لمصر والأردن.
لا يمنع السلاح فرض إرادة «إسرائيل» على لبنان وثروته الغازيّة وحسب، بل يؤثّر سلباً في استثمار «إسرائيل» نفسها لثروتها الغازيّة
أيضاً، عمدت «إسرائيل» أخيراً الى إشراك اليونان، لأهداف تتعلق بتسهيل مهمة إشراك قبرص الى جانبها، وربما لاحقاً الى تسهيل فتح أبواب السوق الأوروبي الكبير أمام غازها، الى إشراكها في قطاعها الغازي عبر إعطاء شركات يونانية حق التنقيب واستخراج الغاز في آبار قريبة جداً من “المنطقة المتنازع” عليها مع لبنان. وهي تأمل أن يؤثر ذلك، في عدة اتجاهات، إذ إن هوية الشركات اليونانية، تؤثّر بطبيعة الحال على الموقف الأوروبي من الغاز الإسرائيلي، وترفع مصلحة رعايته وأمنه والفائدة الاقتصادية منه، الى ما يقرب من كونه غازاً أوروبياً بالنتيجة. وهذا الأمر يفيد «إسرائيل» في مواجهة لبنان، وكذلك في موقفها تجاه ما يتعلّق بادعاءاتها، فيما تقلّل نسبياً من فاعلية وتأثير وجود شركات أوروبية أعطيت حق التنقيب عن الغاز في لبنان، كون مصلحة الغاز الإسرائيلي، باتت نسبياً، عبر الجانب اليوناني، أيضاً مصلحة أوروبية.
القطاع الغازي، وامتداداته وتشعّباته، وإمكاناته اللاحقة، تعطي «إسرائيل» مكانة استراتيجية في حسابات المنطقة وما وراءها، ليس بوصفها كياناً وظيفياً لتحقيق المصالح الأميركية وحسب، بل ككيان ذي مقومات اقتصادية خاصة به من شأنها أن تعزز مكانته المحققة من الرعاية الأميركية. وهي مكانة تعزز وجودها في المنطقة وترسخها فيها عبر قوتها الذاتية، وتسهل لها توسعها التطبيعي الذي تسعى إليه.
هذه المصالح وغيرها، هي موضع اهتمام إسرائيلي بمستويات استراتيجية. وهي موجودة بشكل دائم على طاولة التخطيط والقرار في تل أبيب. تؤثر وتتأثر بطبيعة الحال بمروحة واسعة من العوامل، ومن بينها تلك المتصلة بالعلاقة مع الجانب اللبناني، سواء ما يرتبط منها بمستويات التهدئة والاستقرار مع لبنان، أو تلك المتعلقة بمستويات التصعيد على اختلاف طبقاته، وهي بطبيعة الحال تحرك مواقف «إسرائيل» وأفعالها من كل ما يتعلق بالقطاع الغازي: أي موقف أو فعل يؤدي الى الإضرار بسلّة المصالح، يؤدي بالضرورة الى انكفاء «إسرائيل» عنه. والنقيض صحيح، إذ إن تل أبيب ستكون معنية بالبحث عن أي موقف أو فعل يحسّن من «موقفها الغازي» وتشعباته، ولن تتردد في اللجوء إليه.
على خلفية ما ورد ــــ وعوامل أخرى أيضاً ــــ لا مصلحة لـ«إسرائيل» بأيّ تصعيد أمني أو التلويح به، بل في أي تصريح أو موقف أو تقرير إعلامي يتحدث عن تهديدات للغاز الإسرائيلي وإمكانات التصعيد، وهنا الحديث عن تهديدات كامنة لدى الجانب اللبناني. يكفي في ذلك، مستوى الأضرار المرتبطة بالثقة التي ستتضرر إن حضرت إمكانات وفرضيات تتعلق بالتصعيد بين الجانبين، وهو ما يؤثر في أسواق تستهلك الغاز الإسرائيلي، قائمة الآن، وتلك المرشحة لاحقاً لتلقّي هذا الغاز، ما يدفع مسبقاً، بهذا القدر أو ذاك، السوق الهدف الى البحث عن بدائل أكثر استقراراً وبعيدة عن احتمالات التصعيد.
أيضاً في التداعيات، على «إسرائيل» أن تدفع ثمن مخاطرة الشركات التي تنقّب عن الغاز وتستخرجه وتسيّله وتنقله، كون التهديدات قائمة ومفعّلة وهي مطروحة دائماً على طاولة التقديرات والفرضيات لدى هذه الشركات، وخاصة إذا أشبِع الإعلام بالتهديدات وبتقارير تتحدث عنها وعن معقوليتها وإمكاناتها الفعلية. أما شركات التأمين العالمية، التي لها هي أن تحدد الإبقاء على عمليات التنقيب وما يعقبها، فستتأثر بطبيعة الحال بأيّ تهديد يطلق أو فرضية يجري تداولها لدى الجانبين، الإسرائيلي واللبناني، بما يشمل تراشق التهديد بينهما.
وإطلاق التهديدات، وإمكاناتها وفرضياتها، بمعنى معقوليتها المؤثرة في قرارات الجهات المرتبطة بقطاع الغاز الإسرائيلي، تنقيباً واستهلاكاً وما بينهما، لا تتضرّر، ولا يمكنها أن تتضرر، إن لم تكن للتهديدات صدقيّة. وهنا عملية ربط سلاح حزب الله، بـ«المعضلة الغازية» لـ«إسرائيل»: لا يمنع السلاح فرض إرادة «إسرائيل» على لبنان وحدّه البحري وثروته الغازية وحسب، بل يؤثر سلباً في استثمار «إسرائيل» نفسها لثروتها الغازية، وهي إمكانية كامنة في وجود السلاح واحتمالية استخدامه، سواء جاء ذلك رداً على تهديدات إسرائيلية، أو ربطاً بدوائر تهديد أخرى مرتبطة بالساحة اللبنانية نفسها، بمعنى إمكان انجرار أي تصعيد بين الجانبين، براً وجواً أو أياماً قتالية على خلفية هذه المواجهة أو تلك، الى الحدود البحرية وما وراءها من منشآت وقطاع غازي، علماً، وهنا المعضلة، بأن «معالجة» هذا السلاح عبر الخيار العسكري، تؤدي بالنتيجة الى نفس الضرر الذي أرادت «إسرائيل» أن تتجنّبه، عبر الخيار العسكري نفسه: التصعيد العسكري والإضرار بالمنشآت الغازية وما وراءها.
على ذلك، «إسرائيل» معنيّة بإيجاد حل للنزاع الحدودي مع لبنان، وكذلك ما يرتبط بهذه الحدود من مكامن غازية تحتها. حلّ ينهي فرضيات التصعيد. لكن كيف يمكن التوصل الى «حل» في ظل هذه التعقيدات؟