منذ عملية «طوفان الأقصى»، في السابع من تشرين الأول الماضي، أوقفت الأجهزة الأمنية اللبنانية عدداً من المتعاملين مع العدو، من بينهم ممرّض زوّد مشغّليه الإسرائيليين بمعلومات أمنية وصورٍ وإحداثيات، قبل أن يتمكّن فرع المعلومات من توقيفه. قاضي التحقيق العسكري طلب للعميل عقوبة بالسجن بين 3 سنوات و15 سنة، وهي، كالعادة، عقوبة مخفّفة لمن يتعامل مع دولة عدو في زمن الحرب
لم يختلف أسلوب تجنيد الاستخبارات الإسرائيلية لمحمد ش. (مواليد 1995)، ابن بلدة الطيري الجنوبية، عن عمليات التجنيد التي ينشط فيها الموساد منذ سنوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ كان محمد يتفاعل مع منشورات على «فايسبوك»، ويضع «لايكات» على إعلانات عن مطاعم وسيارات تَعِدُ بربح جوائز، عندما اصطاده المشغّل الإسرائيلي في ربيع 2023. وصلته رسالة بالعربية عبر تطبيق «ماسنجر» من شخص يُدعى «توم»، زعم أنه يعمل لمصلحة جمعية إنسانية تساعد المحتاجين إما بالمال أو بتأمين الوظائف، وأن للجمعية مراكز في جميع أنحاء العالم، وأن مركزها في لبنان في مدينة زحلة. لاحظ «توم» تفاعل محمد معه، فبدأ بطرح أسئلة شخصية عنه وعن عائلته، مثل اسمه وعمره وطائفته ومهنته والانتماء السياسي لسكان المنطقة التي يقيم فيها. وبالفعل، أفرغ الشاب كل ما في جعبته: عازب، عاطل عن العمل حالياً، عمل سابقاً ممرضاً في مستشفى الرسول الأعظم حيث يعمل والده حارساً، ويدين سكان المنطقة التي يُقيم فيها بالولاء لحزب الله وحركة أمل. جمع «توم» في المحادثة الأولى التي استمرت نحو ساعة أكبر قدر من المعلومات وأنهاها بوعد بمعاودة التواصل.
وبالفعل، بعد يومين، تواصل «توم» مع محمد كتابةً وسأل إن كان في إمكانه الاتصال به هاتفياً عبر الماسنجر. كانت لهجة «توم» في الاتصال لبنانية، ودار حديث عادي أكّد خلاله المتصل لمحمد بأن الجمعية ستساعده، وأن زميلاً له يُدعى «أمير» سيتواصل معه عبر واتساب من رقم أجنبي. وأكّد الموقوف للمحققين أن الأمر أثار شكوكه مستغرباً اهتمام الجمعية بالتواصل معه بهذه الحماسة، لكنه قرّر مواصلة التواصل لمعرفة إلى أين تصل الأمور. مرّت خمسة أيام، قبل أن ترده عبر «واتساب» رسالة من «أمير» قال فيها إنه مكلّف من الجمعية بالمتابعة معه لمعرفة كيف يمكن مساعدته. بعدها تواصل «أمير» معه هاتفياً وتحدّث بخليط من الفُصحى والعامية القريبة من اللهجة الفلسطينية، وأبلغه بأنّه سيحوّل إليه مبلغاً مالياً لمساعدته. وأبلغ الموقوف المحقّقين أن «أمير» اتصل به بعد يومين، وأخبره بأنه لبناني وليس فلسطينياً، وقال له إنه سيحوّل إليه 500 دولار عبر «البريد الميت» في محلة الحدث. بعد خمسة أيام على تلقّيه المبلغ، عاود أمير التواصل معه، وفهم منه محمد «بشكل غير مباشر» بأنّه تابع لجهة إسرائيلية، وسأله إن كان يرغب بالعمل له مقابل مبالغ مالية. وعندما استفسر الشاب عن طبيعة العمل المطلوب، أخبره «أمير» بأنّه سيُكلّفه بمهمات جمع معلومات عن أشخاص وأماكن يُحددها له. وقال محمد في إفادته: «أيقنت لحظتها أنّ أمير ضابط في الموساد الإسرائيلي». رغم ذلك، وافق على تنفيذ المهمات التي سيكلّفه «أمير» بها. لكن، كان عليه أولاً الخضوع لاختبار عملاني للتأكد من فهمه للتعليمات. زوّده «أمير» بخريطة لمحل طالباً منه زيارته وكتابة تقرير يحدد فيه محتوياته وتقسيمه وأماكن تثبيت كاميرات المراقبة ونقاط تمركز عناصر الحراسة وتوزيع الموظفين. وبالفعل، نفّذ ما طُلب منه، إلا أن «أمير» أرسل إليه بأنه أخطأ في تحديد أماكن تثبيت كاميرات المراقبة، وأبلغه بأنه كان عليه زيارة المكان أكثر من مرة ليتمكّن من معاينته جيداً من دون إثارة شبهات.
أخضع «أمير» العميل لاختبارات مشابهة عدة عبر تكليفه بزيارة محلّات في صور والنبطية ومحيطيْهما قبل أن يبلغه بأنّه بات راضياً عن أدائه. عندها، قال العميل لمشغّله بأنه بحاجة إلى معالجة أسنانه. بعد نحو أسبوع طلب منه «أمير» التوجه إلى جونية حيث قبض مبلغ 4 آلاف دولار من أحد الأشخاص.
إثر ذلك، أبلغه «أمير» بأنّه سيكلّفه بـ«مهمة صعبة ومعقّدة»، وسيكون البدل مجزياً. طلب منه شراء شريحة خط خلوية لا يسجّلها باسمه وهاتف يعمل بنظام أندرويد على أن يكون مزوّداً بكاميرا جيّدة وبطارية تدوم فترة طويلة. وأبلغه بأنّه سيدرّبه على استخدام الهاتف بطريقة مموّهة، وسيُزوّده باسم منطقة جنوبية، عليه أن يجد سبباً ليُقيم فيها سواء بالعثور على عمل أو حتى بالزواج. وبعد تدريبه على استخدام الخريطة من دون الاتصال بشبكة الإنترنت Offline Map وكيفية استخدام الصور للوصول إلى مكان معيّن، زوّده بإحداثيات لموقع في منطقة الرميلة حيث كان مبلغ من المال في انتظاره.
سأله المشغّل إذا ما كان يعرف أشخاصاً من المنتسبين إلى حزب الله في بلدة الخرايب، فأعطى محمد مشغّله ستة أسماء. كذلك طلب منه معاودة الانتساب إلى حزب الله بعدما كان قد جمّد عضويته بسبب انتقال سكنه من بيروت إلى الجنوب. لاحقاً جرى اتصالان بين العميل ومشغّله دام كل منهما ثلاث ساعات في حضور شخص لا يتقن العربية عرّف عنه «أمير» بأنّه المسؤول عنه، تبيّن أنّه لا يُتقن اللغة العربية. في الاتصالين، تركّز الحديث حول كيفية معاودة انضمامه إلى الحزب، وأخبر محمد المشغّل بأنه خضع لدورات «جنود» و«أنصار» وإسعاف مقاتل، وأنه شارك في القتال في سوريا، وقال إنه عمل سابقاً حارساً في مستشفى الرسول الأعظم، قبل أن يعمل ممرّضاً لسنوات عدة في المستشفى نفسه. وتحدّث بالتفصيل عن عمله في الحزب وعن أسماء المسؤولين عنه لدى مشاركته في الإسعاف الحربي في سوريا وأسمائهم العسكرية ومواصفاتهم وأعمارهم والمناطق التي ينتمون إليها. وعندما سأله المشغّل عن رقمه المالي في الحزب، أجاب بأنّه لم يعد يذكره.
عرض المشغّل على محمد الانتقال إلى إسرائيل، وطلب منه التوجه على متن دراجته النارية إلى الشريط الحدودي على أن يعمل الموساد على إدخاله إلى الداخل الإسرائيلي، حيث سيمكث نحو أسبوعين لتدريبه على جهاز إلكتروني يحضره معه لدى عودته. غير أنّه رفض ذلك خشيةً من افتضاح أمره، عندها عرض عليه «أمير» السفر للقائه في دولة أخرى.
وقبل حصول ذلك، تمكّن فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللبناني من توقيف محمد ش. في 20 شباط الماضي في بلدة الخرايب. وبالتحقيق معه، بعد ضبط أجهزته الخلوية الثلاثة وحاسوبه المحمول وحافظتي ذاكرة، اعترف بأنّه تواصل مع الموساد خلال عامي 2023 و2024 وعمل لمصلحته. وأبلغ المحقّقين بأنّه زوّد مشغّليه بمعلومات عن مراكز لحزب الله في بلدة الخرايب وإحداثيات جغرافية لمركز في محلة تُعرف باسم المطرية وإحداثيات لمسجد الإمام علي وصور لمدخل المسجد ومن داخله، ففعل. وإحداثيات لحسينية البلدة وكاميرات المراقبة فيها. وقال إن مشغّليه طلبوا منه الانتقال إلى الضاحية الجنوبية للإقامة والعمل ممرّضاً في أحد مستشفياتها، ولمّا أبلغهم بعدم رغبته بذلك، طُلب منه الإقامة في بلدة ميس الجبل وتقديم طلب للعمل ممرّضاً في المستشفى الحكومي في البلدة.
بعد اندلاع الحرب عقب «طوفان الأقصى»، طلب المشغّل من محمد معلومات عن الأعمال الحربية التي تحصل في محيط سكنه وعن تحركات عناصر حزب الله في المنطقة، وسأله عمّا إذا كان بين معارفه من يقيم في بلدتي البازورية ومعركة، وطلب منه الإقامة هناك بعد تأمين تغطية لعمله سواء عبر الزواج أو العمل.
ومع اشتداد الحرب، زوّده المشغّل بإحداثيات لموقعين جغرافيين لنقطتين تقع بينهما مجموعة كبيرة من المحالّ في بلدة الخرايب، طالباً منه معلومات عن هذه المحالّ وأصحابها. وبالفعل، صوّر العميل المحالّ التجارية المطلوبة، ومن بينها معرض للسيارات ومحالّ لبيع الهواتف الخلوية والعطورات والورود وميني ماركت. كذلك طُلب منه مراقبة محل لبيع الهواتف الخلوية في بلدة الصرفند، غير أنه لم ينفّذ المهمة، مصرّاً على أن يتقاضى أموالاً قبل ذلك. وبلغ مجموع ما تقاضاه العميل من مشغّليه 7500 دولار، إضافة إلى 4000 دولار كان يُفترض أن تصله بالبريد الميت في محلة الرميلة، لكنه لم يعثر عليها.
وأقرّ العميل بأنه بعد أحداث 7 أكتوبر، أصرّ عليه مشغّله مراراً بضرورة الانتقال إلى داخل الأراضي المحتلة للخضوع للتدريب على جهاز إلكتروني للاستعانة به في مهمات أخرى. كما طُلب منه استخدام الـ VPN أثناء التواصل معه على الواتساب، وتفعيل وضعية الطيران على هاتفه قبل الوصول إلى النقطة الهدف التي عليه التنفيذ فيها. وكان لافتاً في المحادثات التي عُثر عليها على هاتف العميل أنّ المشغّل الإسرائيلي كان يحرص على معرفة أدق التفاصيل بالنسبة إلى الحواجز في المنطقة، مثل: مكان الحاجز ، الجهة المسؤولة (الأمن الداخلي، الجيش اللبناني، اليونيفل، حزب الله)، عدد العناصر التقريبي، إذا تمّ توقيفك ما هي الأسئلة التي يطرحها عناصر الحاجز، هل توقف الحواجز السيارت إذا كانت تقلّ عائلات أو نساء أو أجانب؟ هل يُبدي أهالي المنطقة شكوكاً تجاه الغرباء؟
وأبلغ محمد المحقّقين بأنّه حذف الرسائل التي تبادلها مع مشغّله على البريد الإلكتروني الذي زوّده الأخير به، وكان يكلّفه بالمهمات عبره. وزعم أنّه لم يعلم بهوية «أمير» الإسرائيلية، إلا بعد قبضه الدفعة الثانية في جونية. وأشار إلى أنّه استمر في التواصل بسبب حاجته الماسة إلى المال، وادّعى أنّه لم يُزوّد مشغّله بكل المعلومات التي طلبها بعد نشوب الحرب.
واعتبر قاضي التحقيق العسكري الأول فادي صوان أنّ فعل المُدعى عليه محمد لجهة إقدامه على التواصل مع عملاء الموساد الإسرائيلي وتزويدهم بمعلومات أمنية وعسكرية مقابل مبالغ مالية، يؤلّف الجناية المنصوص عنها في المادة 278 من قانون العقوبات، وعقوبتها الأشغال الشاقة المؤقتة التي تراوح بين السجن لمدة 3 سنوات و15 سنة كعقوبة قصوى.