غريب كان التناقض في التصريحات والمواقف العلنية التي شهدتها الساعات الأخيرة بين الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، لجهة «حل الدولتين» تحديداً، إذ أعلن الأخير في خطاب علني عدم اعتراف اسرائيل بهذا الحل وأنّ اسرائيل ستسيطر على كل الأراضي غرب نهر الأردن، أي كل الأراضي الفلسطينية، معتبراً أنّ في ذلك «مسألة أمن قومي» ولا تنازل عنه.
بعد أقل من ٢٤ ساعة رَدّ بايدن على نتنياهو في دردشةٍ مع الصحافيين، قائلاً ان لا مفرّ من «حل الدولتين اذا كنّا نريد سلاماً في الشرق الأوسط». ورداً على سؤال حول رفض نتنياهو «حل الدولتين»، أجاب: «لم يقل (نتنياهو) هذا الشيء».
واستغربت الأوساط المتابعة قول بايدن هذا، واعتبر البعض أن الرجل غير مُطّلع على كلام نتنياهو أو أن مستشاريه لم يبلغوه ايّاه بعد، الاّ أن المتعمّق أكثر في السياسة يدرك أن هذا النوع من الإنكار يهدف الى الآتي:
ـ أولاً، للاشارة الى انّ موقف نتنياهو هذا ليس نهائياً وليس مُنزلاً وقابلاً للتبدل أمام التسوية الكبرى الآتية لا محالة.
ـ ثانياً، للإشارة الى أنه موقف ظرفي آنيّ ناتج من تداعيات السابع من تشرين الاول وليس موقفاً مبدئياً واستراتيجياً.
ـ ثالثاً والأهم، يأتي هذا الإنكار ليوضح أن موقف نتنياهو لا يلزم أميركا، وان لم يكن منسقاً معها.
وفي اي حال فإن التباينات في المواقف بين اسرائيل وواشنطن لم تعد خفية ومتشعبة، إذ بدأ يتشكّل اقتناع راسخ لدى بايدن في أن نتنياهو يخوض معركة ترامب الرئاسية من خلال أدائه في غزة.
ويأتي تصريح وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن في هذا الصدد ليؤكد أن واشنطن باتت مقتنعة بـ»حل الدولتين» أكثر من أي وقت مضى، إذ أكد في مؤتمر «دافوس» أنه لا مفر من التطبيع الاسرائيلي مع الدول العربية والاسلامية، وكذلك لا مفر في المقابل من منح الفلسطينيين دولة كاملة تحكمها السلطة الفلسطينية بعد اعادة ترميمها.
وفي عبارات بلينكن هذه اختصار وخريطة طريق لِما هو مقبل من سياسات وتطورات على مستوى المنطقة عموماً وعلى صعيد النزاع العربي ـ الاسرائيلي خصوصاً، وفيه إعلان سعودي صريح على لسان وزير الخارجية الامير فيصل بن فرحان أيضاً بأنه لا تطبيع سعودياً مع إسرائيل من دون السماح بقيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة الأوصاف.
وماذا عن الخسائر الإسرائيلية الثلاث:
الاولى هي خسارة الميدان، وبدء الإنسحاب التكتيكي لاستحالة استكمال القتال بفرق وألوية نظامية لأكثر من مئة يوم متتالية في ظروف معقّدة في الشوارع والأبنية والتحصينات ما لا تحمل عقبات فوق الأرض ناهيك عن «غزّة السفلى» تحت الأرض وما تؤديه من دور في القتال والإشتباك والإلتحام المباشر ومن مسافة صفر في أوقات كثيرة، ومن دلالات الخسائر الميدانية أيضاً عدم القدرة على تحقيق الأهداف المعلنة، أوّلها القضاء الكامل والتام على حركة حماس وهذا لم يحصل، حتى أن التخلص من قيادات الصف الأول أو الثاني غير مُتاح حتى الآن. اما الهدف الثاني فهو تحرير الأسرى، وهذا بدوره لم يتحقق إذ إن الجيش الإسرائيلي لم يستطع الوصول إليهم أو تحرير أسير واحد منهم على رغم من النار والدمار وتفوّق القوة والقدرة العسكرية والقتالية، والتطويق والحصار.
امّا الخسارة الثانية على المستوى السياسي والديبلوماسي، فكانت من خلال كميّة المجازر وعدد الضحايا من الفلسطينيين ولا سيما منهم المدنيين، الأطفال والنساء. وما لهذه الواقعة من أثر سلبي على الرأي العام والمجتمع المدني الغربي، ومن أثر سلبي على الآلة والدعاية الانتخابية، لا سيما منها الأميركية، والأوروبية أيضاً التي ناقضت من خلال دعمها لإسرائيل كل تاريخها النضالي حول قضايا حقوق الإنسان والإنسانية الحضارية والمدنية والتقدمية، مما دفع بها الى توجيه رسائل علنية وغير علنية لوقفٍ فوري للآلة العسكرية والدينامية الدموية في غزّة كانت نتيجتها بالإضافة الى الأسباب الداخلية، إرهاق عسكري وانقسام سياسي عمودي بين وسط ويمين من جهة ويمين ويمين متطرف من جهة ثانية، أدى الى الاعلان عن الإنتقال الى المرحلة الثالثة، التي هي بديل عن اعلان الإنسحاب والهزيمة.
ad
والخسارة الثالثة لإسرائيل هي سقوط دورها الوظيفي، فبدلاً من أن تكون الضامن للمصالح الغربية، تحولت مهدداً مباشراً لها، وذلك من خلال توحيد المحور ضدها وضد المصالح الأميركية والغربية في المنطقة بدءاً من الملاحة العالمية والإقتصاد الدولي مروراً بالمساهمة من خلال التوترات في الضغط على أسعار النفط وجعلها تقوّض الجهود الأميركية في خفض الأسعار للإضرار في الموازنة الروسية لما لها من تأثير مباشر على الحرب في أوكرانيا، وتجعل الأوروبي في وضع وشتاء صعبَين في ظل تعثر الوصول الى مصادر الطاقة بعد أن حوّلت روسيا غازها الى الهند والصين بديلاً من السوق الأوروبية، ناهيك عن الخطر الأمني على القواعد العسكرية والمصالح الأميركية من خلال الضربات المباشرة على القواعد العسكرية في العراق وسوريا والمقاطعة المباشرة وغير المباشرة للمصالح الأميركية والغربية، وصولاً الى التأثير السلبي والمباشر على الحملة الإنتخابية الأميركية، خصوصاً على الرئيس جو بايدن الذي لا يرغب في إنهاء ولايته بهذه الصورة الدموية الإنسانية وبهذا التشويش والفوضى سياسياً ليأتي منافسه ترامب على «صهوة جواد الحل». ولذلك يَنصبّ اهتمام بايدن في الأيام الأخيرة على موضوع «حل الدولتين» كشرط أساسي لإتمام عملية التطبيع العربية و»درتها» التطبيع مع السعودية، فتكون بذلك ورقة إنتخابية حاسمة لمصلحته.
اذاً، الحسابات اليوم أصبحت أكثر دقة والتفويض الدموي لإسرائيل لم يعد مفتوحاً، أما البديل فهو عمليات الإغتيال التي ستكون عابرة للحدود، يومياً، فهي بديل الدول الغربية لإسرائيل عن الدعم المطلق، وبديل للحكومة الاسرائيلية تجاه الداخل المشتعل والمنتفِض لعدم إعلان الهزيمة والاستعاضة بإعلان انجازات من خلال تصفيات وإغتيالات، ستكون سوريا ولبنان ساحتهما الأساسية بالاضافة الى غزّة والضفة الغربية وستطاول ما تَيسّر من قيادات، حماس و»حزب الله» والحرس الثوري الايراني، امّا الرد لاستعادة الردع فهو مَدار بحث خلال الساعات الأخيرة في غرف العمليات ومراكز القرار في «المحور».