فرضت الغارات الاسرائيلية المكثفة على مواقع الحرس الثوري الايراني والصديقة له في دمشق وشمال شرق البلاد، في الأيام القليلة الماضية، قراءة جديدة للمشهد السوري وفي المنطقة. وإن تعددت الروايات حول الأسباب التي قادت إلى تكثيفها، فإنّ احداها ربطتها بالعمليات الاميركية التي استهدفت نظيراتها غرب مجرى الفرات، فوضعتها بين فكي كمّاشة اميركية – اسرائيلية بسبب افتعالها المواجهة مع واشنطن. وعليه، ما الذي يقود إلى هذه المعادلة؟
منذ ان أُعلن في العاشر من آذار الماضي عن التفاهم لإحياء التبادل الديبلوماسي بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية الايرانية من بكين، تعدّدت السيناريوهات التي توسعت في تفسير تردّداتها على الساحات الملتهبة، حيث للطرفين أيادٍ فيها إلى جانب حلفائهما. وإن كان معظمها قد أعطى الاولوية لملف اليمن على بقية الملفات المتعددة، في اعتبارها الأزمة الاكثر سخونة، فإنّ كثيراً من السيناريوهات قد رُسم لملفات العراق وسوريا ولبنان وغيره، لما للطرفين من مصالح مشتركة، ولا بدّ من تسويتها على خلفية أن ليس هناك ساحة واحدة للمواجهة بينهما إلّا ويجب تهدئتها.
وإلى هذه الملاحظات التي لا يمكن لأحد تجاهلها، اعتقد كثر انّ مجرد الاتفاق على إحياء العلاقات الديبلوماسية بين العاصمتين، يفرض إطلاق المساعي الجدّية لـ «تصفير» المشكلات وفتح صفحة جديدة بينهما على كل المستويات، بما لا يتجاهل مصالح الحلفاء في أي ساحة من الساحات التي خصّص لها الطرفان ما يمتلكانه من قدرات مادية وعسكرية وأمنية واقتصادية وديبلوماسية وإعلامية، فتحولت عواصمها ساحات للمنازلة المباشرة مع ما تستدعيه من مستلزمات الحروب الطويلة الأمد وبطريقة كان يمكن التحكّم باحتساب بداياتها وصعوبة التكهن بنهايتها.
وقياساً على حجم المواجهات التي خيضت تحت هذه العناوين في أكثر من دولة وعاصمة، وبالشعارات التي لم تستثنِ المحرّمات لدى الطرفين، فقد كانت ردّات الفعل المطلوبة من الحلفاء بعد «صاعقة بكين» صعبة على البعض منهم، فإنّ ما كُتب قد كُتب بين ليلة وضحاها، وإن قاربت «الإهانة» لدى البعض الآخر. فقد أصرّ الطرفان على مناصريهم أينما وجدوا، بالتزام اصول المصالحة والتفاهم تمهيداً لتغيير قواعد السلوك لدى كثير منهم، إلى مرحلة يمكن فيها التوغل في الحلول الممكنة لكل أزمة منها على حدة، وحسبما تقتضيه ظروفها، مع احترام خصوصيات الأطراف المتصارعة في الداخل.
وبناءً على ما تقدّم من المعطيات والمؤشرات التي دلّت إليها جدّية انخراط الطرفين في الإسراع بالمصالحة والمصارحة اللتين تعهّدا بهما، فإنّهما يمضيان معاً لتمهيد الطريق لتنفيذ اولى الخطوات الملزمة، إلى حين تعيين البعثات الديبلوماسية في العاصمتين ضمن مهلة الشهرين التي حُدّدت في البيان المقتضب الذي صدر من بكين، والتي تنتهي في العاشر من ايار المقبل. وهو ما دلّت إليه الخطط التي وضعت على عجل لعقد القمة المنتظرة بين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس الايراني ابراهيم رئيسي، سواء عُقد اللقاء بين وزيري الخارجية فيصل بن فرحان وحسين أمير عبد اللهيان قبلها او بعدها، مع ترجيح عقده قبل نهاية الشهر الفضيل.
وعلى الرغم من أهمية هاتين الخطوتين، لا يمكن لأي متابع للتطورات المتسارعة ان يتجاهل ما أعلنه وزير المال السعودي ابراهيم العساف، الذي عبّر عن نيّة بلاده لاستثمار بعشرات المليارات من الدولارات في السوق الايرانية المتعطشة إلى الاموال القادمة من الخارج لتدارك مخاطر تنامي الأزمة المالية التي تعيشها، بفعل العقوبات المشدّدة الاميركية منها كما الدولية والأممية.
وقياساً على هذه التطورات، فقد توجّهت الأنظار إلى الساحات الرديفة التي ستتأثر بالتفاهم الجديد. وإن كانت النظرة مطمئنة إلى حجم ما يمكن تحقيقه على مستوى الأزمة اليمنية ومن بعدها العراقية، فإنّ بعض العوائق ظهرت على الساحتين السورية واللبنانية. وبعد الزيارات التي قام بها الرئيس السوري بشار الاسد إلى سلطنة عمان وابو ظبي، والترتيبات التي حُكي عنها لرفع مستوى التمثيل الديبلوماسي مع دمشق، فقد جاءت التطورات الأمنية التي انخرطت فيها الولايات المتحدة الاميركية وطائراتها مباشرة، لتلقي بظلالها على الوضع.
وبعد ان فرملت دولة الامارات العربية المتحدة خطواتها لإرسال سفيرها إلى دمشق، تبين انّ هناك خطوات بطيئة لإحياء التمثيل الديبلوماسي السعودي معها، فبقي خبر قرب مثل هذه الخطوة على لسان القريبين من العاصمة السورية، في وقت لفت وزير الخارجية السعودية إلى انّ أي تقارب محتمل سيتجّسد في القمة العربية في 19 ايار المقبل التي تستضيفها بلاده، ولربما شهدت تصويتاً على موضوع عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وهو ما أدّى إلى التباطؤ في أكثر من خطوة ديبلوماسية بين البلدين، كما لجهة المشاركة السورية في القمة التي أصبحت مستبعدة تماماً.
وإلى هذه المعطيات السياسية والديبلوماسية، تبدو المواجهة الاميركية – الايرانية الاخيرة على جانبي حوض الفرات، عائقاً إضافياً يزيد من حجم وقوة الإنذارات الاميركية إلى الدول المعنية بـ «التحرّك المريب» تجاه سوريا، معطوفة على اعلان اميركي مباشر لكل من نوى التطبيع مع سوريا في مثل هذه الظروف قبل ان يُقدم السوريون على ما هو مطلوب منهم من خطوات تفتح الطريق إلى مثل هذه المحطات الكبيرة. وعليه، فإلى ما تركته المواجهات العسكرية من أجواء توتر تجاوزت الاراضي السورية، فإنّ كثافة الغارات الاسرائيلية لربما زادت في الطين بلّة، وخصوصا انّها استهدفت مواقع ايرانية حساسة في دمشق، دفعت إلى الاعتراف بمقتل احد الضباط الايرانيين الكبار نتيجة إحداها.
وبناءً على كل ما تقدّم، فقد كشفت المراجع الديبلوماسية التي تواكب الملف السوري، انّ الخطة الايرانية التي استدرجت الاميركيين إلى مواجهة مباشرة معها، قد ارتدت عليها، لتحمّلها مسؤولية إطلاق شرارة التوتر الذي شهدته مناطق متعددة من شمال الأراضي السورية وشرقها امتداداً إلى الاراضي العراقية والتركية. وإن كانت احدى النظريات تقول انّ ايران نجحت في إبراز الحديث مجدداً عن وجود «قوات احتلال أميركية» على الأراضي السورية وإثارة الجدل حولها، فإنّها عملية اوقعتها الغارات الاميركية ومن بعدها الاسرائيلية، بتوزع أهدافها على المناطق السورية المختلفة ما بين شمال شرقها ودمشق وضواحيها والساحل السوري الشمالي. وإن وضعت المطارات السورية من وقت لآخر هدفاً إضافياً لتعطيلها ومنع استخدامها في نقل الأعتدة الايرانية اليها، فانّها اوقعت القواعد الايرانية بين فكي كماشة اسرائيلية ـ اميركية يمكن الحديث عن تاريخ بداياتها ولكن أحدا لا يمكنه التكهن بنهايتها. ولذلك، هل يمكن القول انّ واشنطن سمحت لتل أبيب بتزخيم غاراتها على الأراضي السورية، شرط صرف النظر عن أي عملية تستهدف أي موقع نووي او منشأة في ايران اياً كان الثمن.