على رغم الوساطات المكشوفة والمستترة، نفّذت إسرائيل تهديداتها وسدّدت أولى ضرباتها إلى «حزب الله». لكن هذا لا يعني حتماً إطلاق العنان للمغامرة. والأرجح أنّ الأطراف جميعاً سيدرسون خطواتهم التالية بدقة.
على مدى الأيام الأربعة الأخيرة، أي منذ ضربة مجدل شمس، بقي المراقبون يترصدون أسباب التأخّر الإسرائيلي في الردّ. ففي العادة، تريث أي جيش في الردّ على ضربة تلقّاها يعني أحد احتمالين:
1- أنّه يتأنّى في تحضيراته العسكرية والسياسية ليأتي ردّه قوياً ويؤدي الوظيفة المطلوبة منه، ومن دون أن يتكلّف خسائر عسكرية وسياسية واقتصادية كبيرة. ولكن، غالباً ما يؤدي تأخير الردّ إلى تنفيس تدريجي لحال الانفعال التي تتسبب بها الضربة، ما يسهّل تدخّل الوسطاء ويولّد مناخاً أكثر قابلية للنقاش السياسي.
2- أنّه يستهلك الوقت في المشاورات السياسية، على مستويات مختلفة، لعلّه يحصّل بالسياسة ما يريده، أو على الأقل يحضّر الأجواء السياسية المناسبة، كي يؤدي الردّ أهدافه المطلوبة.
من الواضح أنّ الإسرائيليين اعتمدوا الاتجاهين في آن معاً. فحكومة بنيامين نتنياهو أنجزت التحضيرات العسكرية لردودها القاسية على «حزب الله»، لكنها في الوقت نفسه فتحت الأبواب للوسطاء كي يحاولوا إما إقناع «الحزب» بشروطها وتجنّب العمل العسكري، وإما تحضير الأرضية المناسبة التي تسمح لإسرائيل بقطف ثمار ضربتها العسكرية.
الضربة الإسرائيلية في الضاحية الجنوبية فاجأت كثيرين بتوقيتها، لأنّ الإعلام الغربي كان قد تحدث عن أيام إضافية من الوساطات والمشاورات، قبل شروع إسرائيل فعلاً في الردود العسكرية. ومن الواضح أنّ الإسرائيليين درسوا خطواتهم جيداً وتحرّكوا بناءً على حسابات دقيقة لموازين الربح والخسارة.
وهذا يسلّط الضوء على مسألة أساسية لا يتطرّق إليها غالبية المعنيين، وهي أنّ المعادلة التي يخضع لها الجولان معكوسة تماماً. فالأولاد الضحايا الذين سقطوا في ملعب عين شمس هم سوريون عرب، فيما تعلن إسرائيل التي تحتل أرضهم أنّها هي التي ستثأر لهم، من طرف لبناني هو «حزب الله»، أي من طرف عربي آخر يطلق شعار المقاومة لتحرير أرضه- وأرضهم أيضاً- من الاحتلال! وهذه المعادلة سوريالية إلى حدّ بعيد، إذ تضيع فيها معالم الضحايا كما معالم القتلة.
ولكن، في أي حال، يجدر التفكير عميقاً في أبعاد الضربة الغامضة المصدر التي استهدفت مجدل شمس. فهي لم تستهدف إحدى المستوطنات في إسرائيل، بل منطقة درزية، في لحظة حساسة تمرّ فيها الطوائف في إسرائيل وسائر الكيانات الشرق أوسطية المتزعزعة. وبديهي ألّا يكون الغضب والحزن الإسرائيليان الناتجان من ضربة كهذه في المستوى العالي الذي قد يصاحب ضربة مماثلة على مستوطنة.
وللتذكير، إنّ حكومة نتنياهو لا تتصرّف بانفعال في حرب غزة، ولا حتى في مسألة الإفراج عن رهائنها، بل تتخذ خطواتها هناك بناءً على المصالح. وهذا يعني بالتأكيد أنّ إسرائيل ستدرس ردودها على «الحزب» بدقّة، وستستغل ضربة مجدل شمس، باعتبارها مجزرة بحق مدنيين، لتحقق من خلالها أهدافاً سياسية تخطّط لها.
ما تريده حكومة نتنياهو من «حزب الله» هو وقف الحرب التي يخوضها في بقعة الحدود، وترسيخ تفاهم جديد يستنسخ القرار 1701 أو يستوحيه معدلاً. ففي الواقع، إسرائيل ترفع شعار الانتقام لضحايا مجدل شمس، لكن قرارها بتسديد ضربة إلى «الحزب» كان متخذاً منذ أشهر، وينتظر الذريعة للتنفيذ. فالإسرائيليون يطالبون «حزب الله» ولبنان- ديبلوماسياً- بوقف «حرب المساندة» الدائرة على الحدود، والعودة إلى الترتيبات الأمنية التي تحفظ أمن الشمال الإسرائيلي، وإلّا فإنّهم سيضطرون إلى فرض هذا الواقع بالقوة، أي بالحرب الواسعة والشاملة.
وفي الواقع، سيتهرّب الإسرائيليون من الحرب الشاملة مع «حزب الله»، خصوصاً أنّ إيران هدّدت بالمشاركة فيها، ما يحوّلها حرباً إقليمية. لكن الضربات الصاعقة التي بدأوا تنفيذها ضدّ «الحزب» هي البديل من المغامرة التي لا يريدون الخوض فيها. ولذلك، يمكن القول إنّ ردود إسرائيل المنتظرة في لبنان لن تكون جنونية على رغم شراستها، بل مضبوطة وتحت السيطرة.