حظيت التسريبات عن تحذيرات بريطانية بإمكان شنّ حرب على لبنان منتصف الجاري باهتمام مبالغ فيه، دون سواها من التحذيرات السابقة. وفي الوقت الذي عبّرت مراجع ديبلوماسية عن واقعية هذا التحذير، أعادت التذكير بمسلسل التحذيرات السابقة التي وردت إلى لبنان بكل اللغات المعترف بها دولياً وأممياً، وهو ما أعطاها نوعاً من الصدقية التي لها ما يبّررها. وعليه ما الذي يقود إلى مثل هذه الرواية؟
بمعزل عن مسلسل التهديدات الاسرائيلية التي لم تنقطع منذ اللحظة الاولى لانخراط «حزب الله» في حرب «الإلهاء والإسناد» فجر الثامن من تشرين الأول الماضي في اليوم التالي لعملية «طوفان الاقصى»، والتي استمرت حتى الساعات القليلة الماضية، فقد تعدّدت التحذيرات الدولية والأممية التي تبلّغها المسؤولون اللبنانيون بمختلف اللغات التي يتقنها الموفدون من كل حدب وصوب. ولا ينسى احد انّ المسؤولين الاسرائيليين قد واصلوا تهديداتهم بتدمير لبنان وعاصمته، إلى جانب تلك التي طاولت حركة «حماس» وحليفاتها من المنظمات الفلسطينية الصديقة. وكل ذلك كان متواصلاً على وقع العمليات العسكرية التي انطلقت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخصوصاً في قطاع غزة كما في الضفة الغربية، ومعها مختلف أشكال المجازر التي ارتُكبت بالمدنيين والقطاعات التربوية والصحية والإغاثية، الى ان حصدت عشرات آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين.
وإلى هذه الملاحظات التي لا بدّ منها، لا بدّ من التذكير أنّ ما حمله التحذير البريطاني الأخير ـ كما تمّ تسريبه في توقيته وشكله والمضمون – لم يأتِ بجديد لم يسمعه اللبنانيون من قبل. وهو الذي «حدّد موعداً للضربة الإسرائيلية منتصف حزيران الجاري، مع نصائح بضرورة القيام بإجراءات التموين اللازمة للحرب التي لن يكون معروفاً مدى رقعة توسّعها ولا مدّتها الزمنية». ذلك انّ مثل هذه العبارات قد تكرّرت أكثر من مرّة قياساً على عدد الموفدين الدوليين والأمميين الذين قصدوا لبنان من مختلف القارات، عدا عن المسؤولين الأمميين الذين يواكبون برامج المساعدات التي تُعنى بالنازحين والمناطق المتضررة نتيجة العمليات العسكرية على الأراضي اللبنانية والفلسطينية على حدّ سواء.
وإن بقي التحذير البريطاني مطروحاً للبحث بالطريقة التي تسّرب فيها، فإنّه ليس الأول من نوعه، فقد سبق لوزير الخارجية البريطانية ديفيد كاميرون ان حمل في الاول من شباط الماضي رسائل مماثلة، فهو زار بيروت والتقى كلاً من رئيسي مجلس النواب والحكومة وقائدي الجيش و»اليونيفيل» معبّراً عن «مخاوفه من التوترات المتزايدة على طول حدود لبنان مع إسرائيل»، ومشدّداً على «التزام المملكة المتحدة بدعم وقف تصعيد العنف». ولفت بكل صراحة إلى «ضرورة النظر إلى المخاطر المترتبة على السياسات الإسرائيلية التي عبّرت ما فيه الكفاية عمّا يجري في قطاع غزة وبعض مناطق الضفة الغربية، حيث مناطق السلطة الفلسطينية، بما فيها الارتكابات التي رافقت العمليات العسكرية في القطاع المحاصر».
وعليه، وإنعاشاً لذاكرة البعض إن كانت «مثقوبة»، فلا بدّ من التذكير أنّ تلهّي اللبنانيين بالإشاعات والاتهامات التي رافقت زيارة كاميرون لجهة «تكليفه أن يكون رئيساً للفريق الدولي الذي سيشرف على عمليات ترحيل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر والاردن»، لم ينتبهوا الى ما أكّده الرجل لجهة دعم بلاده لـ«مشروع الدولتين» الفلسطينية والاسرائيلية، كحل طبيعي ولما يجري في الأراضي المحتلة. كما على مستوى إصرار بلاده على استمرار برامج الدعم للجيش اللبناني «والذي تجاوز حتى الآن 100 مليون جنيه إسترليني منذ عام 2009»، كما على مستوى «تعزيز قدرات الألوية البرية الاربعة»، لافتاً في زيارته الميدانية الى قاعدة رياق الجوية، حيث غرفة العمليات التي تدير الألوية، وما أنجز لجهة «بناء 78 برجًا حدوديًّا» قبل ان يقترح بناء أبراج مماثلة لها على الحدود الجنوبية. هذا عدا عن تأكيد مواصلة توفير المساعدات اللوجستية وصولاً الى «تدريب أكثر من 26.5 ألف فرد من القوات المسلحة اللبنانية في العمليات الحدودية والأمن الداخلي». وإضافة الى ذلك، فقد كشف عن مبلغ 7.35 ملايين جنيه إسترليني لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية والصندوق الإنساني في لبنان، مساهمة اضافية بقيمة 2.6 مليون جنيه إسترليني لدعم البرامج التربوية.
وإن لم تتوقف القراءات للمواقف البريطانية سواءً كانت جديدة ام لا، أو أنّه كان يجب ان تبقى سرّية ام لا، فإنّ التوسع في الحديث عن التحذيرات الأممية والدولية تفرض مراجعة مواقف المسؤولين الاميركيين، من وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى وزير الدفاع لويد اوستن الى السفيرة الاميركية السابقة في بيروت دوروثي شيا وخليفتها ليزا جونسون، وما نقلته وفود الكونغرس التي زارت بيروت من معلومات تتحدث عن مساعي بلادها لخفض التصعيد في المنطقة، وخصوصاً في لبنان، قبل ان تشمل العمليات العسكرية المناطق البعيدة من مسرح الحرب في غزة في اتجاه اليمن وما بين مضيقي هرمز وباب المندب وفي اتجاه العمقين السوري والعراقي.
وإن شاء البعض لفت النظر إلى المواقف المشابهة الأخرى لا يمكن تجاهل مواقف وزير الخارجية الفرنسية ستيفان سيجورنيه في زيارته القصيرة للبنان في 6 شباط الماضي «مشجّعاً المسؤولين كافة على ضرورة تجنيب لبنان التصعيد». ولما كشف عن مبادرة فرنسية جديدة تتصل بآلية تنفيذ القرار 1701 عاد إلى بيروت في 27 و28 نيسان الماضي لمناقشة تفاصيلها بعدما تمّ عرضها على الجانب الإسرائيلي، حيث اصرّ على ما طلبته من «تطبيق القرار 1701 من جانب لبنان لناحية استكمال نشر الجيش اللبناني جنوب الليطاني» وفق خريطة طريق تحول دون عملية عسكرية كبيرة تؤدي الى تدمير بلد لا يحتمل تداعيات مثل هذه العملية. وهو ما ترجمه الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان في زيارته للبنان الاسبوع الماضي، محذّراً من انهيار لبنان السياسي إن لم ينجح اللبنانيون في انتخاب رئيس للجمهورية وتهدئة الوضع جنوباً، لتجاوز المخاطر المحدقة باحتمال وقوع مواجهة عسكرية كبيرة مع اسرائيل ان توافرت الحجة لها.
وإلى هذه التحذيرات لا يتسع المقال للإشارة الى سلاسل اخرى منها، حَمّلتها جهات دولية مختلفة، وهو ما دفع الى التريث قبل الحكم عليها، ذلك أنّ أي عمل عسكري اسرائيلي خارج «الأراضي الجغرافية» للدولة ما زال رهناً بإشارة وموافقة اميركيتين مسبقتين قبل القيام به. وهو ما تقول به بروتوكولات التعاون بين الإدارة الاميركية العميقة ونظيرتها الاسرائيلية التي لم يتمّ تجاوزها بعد، فهي توفّر الدعم الاميركي لها في الداخل بلا اي شروط، كما هو جار حتى اليوم، على ان تبقى أي عملية خارجية رهن موافقتها المسبقة. وهنا يكمن الضمان الوحيد للجم اسرائيل قبل الخروج على قواعد الاشتباك المعتمدة حتى اليوم.