صحيحٌ أنّ الإفتراق السياسي بدأ يأخذ مكانه بين الرئيس الأميركي جو بايدن والحكومة الاسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو، إلاّ أنّ من المبكر الرهان على رضوخ الإئتلاف اليميني الاسرائيلي للواقع، والذهاب الى إعلان وقف نهائي للحرب القائمة.
ذلك أنّ الظروف الإسرائيلية الداخلية لا تزال معقّدة وغير مهيأة لذلك. ورغم كل ما أنتجته هذه المجزرة المستمرة منذ السابع من شهر تشرين الأول الماضي، إلّا أنّ الشارع الاسرائيلي لم تظهر عليه بعد علامات التعب. فالصورة التي نتجت من عملية “طوفان الأقصى” لا تزال ماثلة أمامه، وغالب الظن أنّها ستبقى محفورة في وجدانه الى الأبد.
لذلك لا يزال الشارع الاسرائيلي يضع الأولوية لضرب حركة “حماس” على حساب بقية الاهتمامات، وفي طليعتها الملف الاقتصادي والمخاطر الكبرى التي تحوطه. فالمؤشرات تلحظ تراجعاً واضحاً للدخل كما للناتج المحلي، إضافة الى التوقّعات حول تراجع سيصيب جباية الضرائب. وكل ذلك سيؤدي الى الحاجة لتعديل الموازنة العامة ورفع نسبة العجز، والأهم ما يتوقعه البعض من اتجاه الحكومة إلى زيادة الضرائب كسبيل لتعويض العجز المتوقع.
تاريخياً كان الإسرائيليون يضعون الأولوية للعافية الاقتصادية، لكن الأمن قفز الى المرتبة الاولى بعد عملية “طوفان الأقصى”. فلقد تراجعت ثقة الشارع الاسرائيلي بقوة الردع الاسرائيلية، ما دفع الاسرائيليين الى التزاحم هرباً من كثير من المناطق، لا بل هجرة كثيرين منهم الى الخارج.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ تعمّد الادارة الأميركية إظهار خلافها السياسي مع نتنياهو الى العلن، يعطي الإنطباع بأنّ الدعم الأميركي المفتوح، والذي كان أُعطي لإسرائيل آخذ في التراجع شيئاً فشيئاً.
ذلك أنّ السجال المتصاعد داخل الحزب الديموقراطي الحاكم حول حرب غزة وسط أزمة الإنتخابات الرئاسية الحادة، والتي تتركّز على إعادة ترشح بايدن، لم تعد الادارة الأميركية قادرة على تجاوزه بسهولة.
صحيح أنّ هذا الانقسام الحاصل داخل صفوف الديموقراطيين حول الشرق الاوسط ليس جديداً، لكنه أصبح أكثر حدّة خلال السنوات الماضية وفي المرحلة الحالية، بسبب وصول مجموعات جديدة إلى مجلسي النواب والشيوخ ينتمي بعضها الى الأقليات الدينية والأصول الآسيوية والإفريقية، وهؤلاء يسجّلون انتقادات قوية ضدّ قياداتهم خصوصاً على مستوى النزاع مع إسرائيل.
لكن ثمة ما يعوّض لاسرائيل، وهو أنّ الحزب الجمهوري، والذي يسجّل مرشحوه أسبقية على بايدن في السباق الرئاسي، ما زالوا يقفون في صف الإنحياز الكامل لمصلحة إسرائيل.
لذلك تبدي الأوساط الأميركية قلقها من اغتنام نتنياهو للوضع الداخلي الأميركي واستمرار اندفاعه في أتون الحرب، كونه يسعى لإبعاد المقصلة السياسية التي تنتظره لحظة سكوت المدافع. فرئيس الحكومة الإسرائيلية في وضع صعب، وهنا مكمن الخطورة. والمقصود هنا نيته توجيه آلته الحربية في اتجاه الضفة الغربية ولبنان، خصوصاً أنّه بخلاف ما يدّعيه وزير الدفاع يوآف غالانت، فإنّ الجيش الاسرائيلي لا يزال بعيداً من تحقيق الاهداف المعلنة. أي انّه لا يزال في مأزق عسكري وبالتالي سياسي.
الأوساط الديبلوماسية الأميركية لا تتردّد في التأكيد أنّ نتنياهو ومنذ اشتعال الحرب في غزة، أطلع الإدارة الأميركية على نيته فتح الجبهة مع لبنان. لكن إدارة بايدن رفضت ذلك رغم إلحاحه المتكرّر. وخشية أي خطأ، وضعت ضباطاً أميركيين في غرفة العمليات الاسرائيلية، وكثّفت من رصدها الجوي لتفاصيل الانتشار العسكري على الجبهة مع لبنان. لا بل فإنّ طائرات الرصد البريطانية التي تعمل في الأجواء الاسرائيلية تجوب أيضاً الأجواء اللبنانية لإبقائها لحظة بلحظة تحت المراقبة والمتابعة اللصيقة.
والقلق الأميركي حيال نيات نتنياهو تجاه لبنان يعود الى ما قبل حصول عملية “طوفان الأقصى”.
ذلك أنّ رسائل التهديد الاسرائيلية كانت بدأت قبل فترة طويلة نسبياً. وعلى سبيل التذكير، فإنّ غالانت كان كرّر مراراً تهديده “بإعادة لبنان الى العصر الحجري “، وكان “حزب الله” يردّ باللغة نفسها.
لكن مع فتح أبواب الحرب والضربة الهائلة التي تلقّتها الهيبة العسكرية الاسرائيلية، وما أنتج ذلك من تراجع ثقة الاسرائيليين بقوة الردع العسكرية، باتت حكومة نتنياهو في حاجة الى ترميم قدرة الردع الاسرائيلية، وهي لذلك تفترض وجوب الانتقال الى الضفة وجنوب لبنان. وعلى الرغم من الإلحاح الاسرائيلي، استمرت واشنطن في رفضها الطلب الاسرائيلي بفتح الجبهة مع لبنان.
لكن الجديد، أنّ الطلب الأخير لنتنياهو ترافق مع إشارات ميدانية كمثل توسيع دائرة القصف ومستوى التدمير، ولو تحت السقف التصعيدي المحدّد.
وتكشف الاوساط الديبلوماسية المعنية، أنّ في الرسالة الاسرائيلية الأخيرة شرحاً مستفيضاً حول ضرورة الردّ على “حزب الله”، وخلق واقع عسكري وميداني جديد في جنوب لبنان. وترافق ذلك مع إبراز الإعلام الاسرائيلي رفض سكان المستوطنات في شمال اسرائيل العودة الى منازلهم بسبب الخشية من “حزب الله”. والمقصود اسرائيلياً من ذلك هو إعطاء الطابع الإنساني للقضية واستدرار العطف الغربي.
وروى الوفد الأمني الفرنسي خلال زيارته للبنان، أنّه لاحظ خلال وجوده في اسرائيل تركيزاً على أنّ لبنان كان ساحة تدريب ورعاية لحركة “حماس” في معرض تحضيرها لعملية “طوفان الأقصى”. وهو ما يمكن تفسيره على أنّه في إطار توليف تبريرات للاعتداء على لبنان.
من هنا جاءت النصائح للبنان بالتزام تطبيق القرار 1701 واستكمال ترسيم الحدود البرية من خلال الإتفاق على ما تبقّى من نقاط خلافية. ذلك أنّ منطق الحروب يؤشر الى نتائج سياسية كبيرة لا بدّ من ان تظهر في نهاية المواجهات الدموية. وبالتالي فإنّ انتهاء حرب غزة لا بدّ من ان ينتج وضعاً سياسياً جديداً في المنطقة.
وفي هذا التوقيت اشتد النزاع السياسي في لبنان . وبعيداً من الغبار الكثيف الناتج من المماحكات اللبنانية الضيّقة، فإنّ الجهات الدولية قرأت في تراجع “حزب الله” عن إمرار تمديد سلس لقائد الجيش العماد جوزف عون، إشارة اعتراضية ثانية على الطلب بتطبيق القرار الأممي 1701، بعد احتراق الإشارة الأولى والمتعلقة بـ”طلائع حماس” في مخيمات لبنان. والتزام “حزب الله” بموافقته بقي في الإطار الشكلي، ولكن مع تهرّب ضمني من خلال إلقاء القرار على طاولة القضاء.
ذلك أنّ العمود الفقري لتأمين تطبيق القرار هو الجيش اللبناني. واستطراداً، فإنّ الجيش الذي سيعاني من حالة عدم إتزان بسبب التقلّب الذي سيصيب قيادته، وهو ما ستتأثر به فعاليته وتماسكه وقدرته على التطبيق لفترة لا بأس بها، ما يعني تلقائياً انتفاء القدرة على ترتيب الساحة الجنوبية في عزّ التحولات الجارية في المنطقة. غالب الظن انّ “حزب الله” يريد ثمناً سياسياً كبيراً قبل تطبيق القرار 1701 والانتهاء من تثبيت الحدود، وهذا الثمن السياسي يطاول تركيبة السلطة في لبنان، والمقابل للواقع العسكري، لا بدّ من ان يكون سياسياً على مستوى السلطة.
والسؤال هنا: هل انّ الظروف الدقيقة الموجودة تسمح بهذا “الترف”؟. قد لا يملك أحد الجواب.