IMLebanon

رئاسة الجمهورية بين حربَيْ 1982 و2023

 

لا تشبه حرب 1982 حرب 2023 الممكن حصولها. قبل 41 عاماً كان لبنان ينتظر انتخاب رئيس للجمهورية قبل انتهاء ولاية الرئيس الياس سركيس عندما كانت المواعيد الدستورية لا تزال محترمة. أمّا اليوم فإنّ احتمالات الحرب الإسرائيلية الجديدة على لبنان قائمة في ظلّ الفراغ المستمر في موقع رئاسة الجمهورية منذ انتهاء ولاية الرئيس العماد ميشال عون قبل عام في 31 تشرين الأول 2022.

 

كان لبنان وحيداً في مواجهة الإجتياح الإسرائيلي في حزيران 1982 الذي نجح في احتلال بيروت وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية وجيش النظام السوري منها. منذ العام 1965 تركت الدول العربية لبنان لمواجهة قدره بعد تحويله ساحة للسلاح الفلسطيني. منذ حرب تشرين 1973 خرجت الجيوش العربية من ساحات القتال. النظام السوري بقيادة حافظ الأسد انصرف إلى حماية اتفاق الهدنة مع إسرائيل وتحوّل نحو فرض بقائه في الداخل والتدخل في الحرب اللبنانية، وتثبيت وصايته على لبنان عسكرياً وسياسياً. مصر ذهبت إلى اتفاقات السلام مع إسرائيل وهي اتفاقات ظلّت ولا تزال محترمة ومطبّقة على رغم توالي العهود بعد اغتيال موقِّعِها الرئيس محمد أنور السادات.

 

من عرفات إلى «حماس»

 

منذ العام 1936 تاريخ بدء الصراع داخل فلسطين بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لم يخض الفلسطينيون حرباً مباشرة مع الجيش الإسرائيلي إلا عام 1982 في لبنان. واليوم يخوضون حرباً ثانية مباشرة من خلال حركة «حماس» في قطاع غزة. عام 1982 كان الفلسطينيون تحت راية منظمة التحرير بقيادة رئيسها ياسر عرفات القائد التاريخي لها ولحركة «فتح»، مشاركين في هذه الحرب.

 

أمّا اليوم فتجد حركة «حماس» نفسها وحيدة عسكرياً في هذه المواجهة تنتظر دعماً قد يأتي من «حزب الله» في لبنان، وهو يحتفظ لنفسه بالتوقيت المناسب للدخول في هذه المعركة، طالما أنّ طريقة التعاطي العسكري الإسرائيلي على الجبهة الشمالية مع لبنان لم تصل بعد إلى حد إثارة «الحزب» ودفعه إلى الحرب، حيث يبدو أنّ الطرفين لا يزالان يتريّثان في اتخاذ القرار بانتظار التطورات التي يمكن أن تحصل في غزة.

 

حرب 1982 حصلت بعد أربعة أعوام من اجتياح 1978 وصدور القرار 425 وإرسال القوات الدولية إلى الجنوب. لم تستطع تلك القوات أن تمنع الحرب وبحسب الواقع على الأرض لن تستطيع القوات الدولية التي تعزّزت عدّةً وعدداً بعد حرب تموز 2006 والقرار 1701 أن تمنع أي حرب جديدة.

 

من قوات سلام إلى قوة قتال

 

بوادر حرب 1982 بدأت تظهر منذ حرب زحلة بين «القوات اللبنانية» وجيش النظام السوري في نيسان 1981. عندما تدخّل الطيران السوري في هذه الحرب وتصدّت له الطائرات الإسرائيلية وأدخلت سوريا إلى لبنان صواريخ سام 6، أرسل الرئيس الأميركي رونالد ريغن السفير فيليب حبيب موفداً خاصاً له إلى لبنان لاحتواء التوتر ومنع تدحرجه نحو حرب شاملة بين إسرائيل والنظام السوري. ولكن مهمة حبيب تدحرجت بدورها من منع حصول الحرب إلى احتواء نتائج الحرب بعد حصولها.

 

قبل 1982 لم يكن قائد «القوات اللبنانية» بشير الجميل مقبولاً أميركياً. بعد الحرب صار مرشح واشنطن للرئاسة وصار تأمين انتخابه أحد عناوين مهمة فيليب حبيب الرئيسية بالتوازي مع مهمة تأمين خروج مقاتلي منظمة التحرير الفسطينية وياسر عرفات وجيش النظام السوري من بيروت. تلك المرحلة شهدت نزول قوات المارينز في بيروت مع قوات فرنسية وإيطالية وبريطانية تحت مسمى «القوات المتعددة الجنسيات» لحفظ السلام.

 

اليوم تأتي القوات الأميركية إلى المنطقة كقوة حرب وقتال لا كقوة سلام، ومن الممكن أن تنضم إليها القوات الفرنسية والبريطانية والإيطالية، في حال دخلت واشنطن في حرب شاملة في المنطقة خصوصاً أن الدول المعنية اتخذت موقفاً موحداً داعماً لإسرائيل بعد عملية «طوفان الأقصى» التي نفّذتها «حماس» في 7 تشرين الأول الحالي.

 

لم تكن آخر الحروب

 

إذا كانت إسرائيل اعتقدت عندما خطّطت لحرب 1982 أنّ هذه الحرب يمكن أن تكون آخر حروبها في المنطقة، فقد برهنت الأحداث أنها كانت مخطئة. صحيح أنّ هذه الحرب أخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وأبعدت الدول العربية عن ساحات المواجهة، ولكنّها كانت بداية ولادة «حزب الله» ثم حركتي «حماس» و»الجهاد الإسلامي» ومهّدت لدخول إيران الإسلامية إلى المواجهة لتتولّى قيادة محور الممانعة تحت شعارات تحرير فلسطين والقدس. وإن كانت مشكلة إسرائيل مع منظمة التحرير قابلة للحلّ بعد الإجتياح العسكري وصولاً إلى اتفاقات أوسلو، فإنّ مشكلة إسرائيل الأكبر في أي حرب جديدة محتملة هي مع إيران و»حزب الله» و»حماس» و»الجهاد الإسلامي».

 

صحيح أن لا وجود لجيوش عربية قادرة على هزيمة الجيش الإسرائيلي، وصحيح أنّ الجيش الإيراني بعيد عن ساحات القتال، ولكن الواقع أنّ إسرائيل تواجه نوعاً جديداً من الحروب التي تعرقل مسيرة حياتها الآمنة وتهدّد استقرارها من دون أن ترقى إلى مستوى القضاء عليها. صحيح أنّ حركة «حماس» نجحت في توجيه ضربة صاعقة لإسرائيل في 7 تشرين، ولكن هذه الضربة كانت أقصى ما يمكن أن تصل إليه، ولذلك وجدت نفسها في مأزق مواجهة مصيرها المحتوم في حرب قاضية تشنّها عليها إسرائيل بينما لا تجد من يقف معها على الأرض ليمنع هذه الحرب، وهي تنتظر أن تحقّق إنجازات على الأرض في حال بدء الهجوم البرّي الإسرائيلي. ومثل هذا الأمر يتطلّب قدرات كبيرة في ظلّ القوة التدميرية التي تمتلكها إسرائيل بحيث يتحوّل بقاء «حماس» على قيد الحياة إلى معجزة تتخطى التوقعات.

 

معارك بين الحروب

 

عملياً وعسكرياً لم ينته اجتياح 1982 بالإنسحاب الإسرائيلي من لبنان في 25 أيار 2000. منذ العام 1993 وجدت إسرائيل أنها في مواجهة استراتيجة جديدة يعتمدها «حزب الله» وتقوم على مبدأ الإقلاق الدائم والمعارك بين الحروب. هكذا بعدما أرادت إسرائيل أن يكون اجتياح 1982 لإبعاد خطر العمليات العسكرية والأمنية والصواريخ عن حدودها الشمالية وجدت نفسها في مواجهة سلسلة معارك بين الحروب من معركة تموز 1993، إلى معركة نيسان 1996. وبدل أن تضع هذه المعارك حدوداً لقدرات «حزب الله» كان الحزب يطور هذه القدرات.

 

حرب تموز 2006 لم تكن من ضمن التوقعات والخطط الإسرائيلية. عام 1982 كانت خطة الحرب جاهزة وكانت تتضمّن خطة لمرحلة ما بعد الحرب والقدرة على استثمار نتائجها سياسياً. في 12 تموز 2006 فوجئت إسرائيل بالعملية العسكرية التي نفّذها «حزب الله» ولذلك بدأت حرباً من دون خطة واضحة ومن دون أهداف محدّدة مسبقاً.

 

كانت ترغب في أن تلقّن «حزب الله» درساً، ولكنّها في النتيجة عجزت عن استرداد جندييها الأسيرين إلا بعد عملية تبادل أسرى مع الحزب. واكتفت بأن يكون القرار 1701 القاضي بوقف إطلاق النار هو الناظم للعلاقة معه. منذ ذلك التاريخ احترم الحزب وإسرائيل قواعد الإشتباك التي اتفقا عليها مواربة. ولكن «الحزب» استطاع أن يتحرّر من موجبات هذا القرار فاحتفظ بسلاحه داخل منطقة جنوب الليطاني وأبقى على الحدود مفتوحة بين لبنان وسوريا الأمر الذي أمّن له التدخل العسكري في الحرب السورية وزيادة قدراته التسليحية وتطويرها.

 

حرب 2006 استخدمها «الحزب» لتقوية موقعه في الصراع الداخلي في لبنان بعد اتهامه باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبعد خروج الجيش السوري من لبنان وبعد انتخابات 2005 النيابية وفوز قوى 14 آذار بالأكثرية النيابية. قبل 15 شهراً من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، كان «حزب الله» امتلك بحكم قوته العسكرية قرار منع قوى 14 آذار من انتخاب الرئيس الذي لا يريده وصولاً إلى غزوة 7 أيار واتفاق الدوحة والإنقلاب على اتفاق الطائف.

 

حرب استنزاف؟

 

بعد عملية «حماس» يتهيّب «حزب الله» الدخول في مواجهة شاملة مع إسرائيل. خلال مواجهات الحدود المتواصلة منذ 7 تشرين الأول لا تزال العمليات العسكرية ضمن حدود ضيقة. لم يتخطّ «الحزب» لا الحدود البرية ولا الحدود الإستراتيجية ولا وسّع دائرة القصف باتجاه أهداف استراتيجة في إسرائيل. ولكن حجم الخسائر البشرية التي يتكبّدها في العمليات المحدودة توحي وكأن هناك شيئاً لا يعمل في ماكينته العسكرية وليس قادراً على استمرار تحمّل هذه الخسائر في حرب استنزاف تتفوّق فيها إسرائيل عليه على رغم أنه يستهدف مواقع إسرائيلية ويحقّق إصابات. ولكن يبدو أنه لم ينجح فعلاً في فقء العيون الإسرائيلية.

 

ليس من مصلحة إسرائيل الإستراتيجية أن تخرج من حرب 2023 كما خرجت من حروب 1982، و1993 و1996 و2006. عملياً انتهى مفعول القرار 1701 على الأرض بفعل التطورات العسكرية. قياساً على الحملة الإسرائيلية والدولية ضد «حماس» لا يمكن أن يبقى «حزب الله» مصدر قلق دائم لإسرائيل وأميركا. هذا الهدف يتحقّق بالنسبة إلى إسرائيل من خلال القضاء على «حماس» وعلى «حزب الله».

 

ولكن هل مثل هذا القرار ممكن؟ وهل مصير لبنان من مصير «حزب الله»؟ وهل رئاسة الجمهورية الضائعة في غياهب النسيان والفراغ يمكن أن تكون نتيجة طبيعية لمسار هذه الحرب تبعاً لما يمكن أن يتعرّض له الحزب؟ وهل لا تزال هناك مبادرة فرنسية رئاسية بعد دخول باريس الحرب المعلنة ضد «حماس»؟