خلطت التطورات المتسارعة في غزة وتل أبيب في الساعات الـ 72 الماضية كل الاوراق، خصوصاً على مستوى العلاقات الاميركية ـ الاسرائيلية والجهود الدولية تَوصّلاً الى اليوم التالي. ومردّ ذلك الى ما عَكسته عملية الافراج عن 4 رهائن ومقتل 3 منهم في مخيم النصيرات، قبل انسحاب 3 وزراء من «حكومة الحرب» على مصير مبادرة الرئيس الاميركي جو بايدن وجولة وزير خارجيته أنتوني بلينكن على المنطقة لتسويقها. وعليه، كيف يمكن ترجمة هذه المعادلة المعقدة؟
تعددت السيناريوهات المتداولة على مستوى السلك الديبلوماسي الأجنبي والمحلي حول الجديد المحتمل في المنطقة، وتحديداً بما يتصل بزيارة بلينكن الثامنة من نوعها الى المنطقة منذ السابع من تشرين الاول الماضي، ومصير المساعي التي بذلها لتنفيذ المبادرة الجديدة التي أطلقها بايدن استعداداً لدخول الولايات المتحدة مدار الانتخابات الرئاسية مطمئناً الى الانجاز الذي يسعى اليه لاستعادة الأصوات الاميركية التي هجرته بعدما ندّدت بالعمليات العسكرية الاسرائيلية في قطاع غزة والضفة الغربية والتخفيف من حدة النقمة الشعبية الاميركية، وخصوصاً في الأوساط العربية والاسلامية.
ذلك انّ ادارة بايدن المكلفة الانتخابات الاميركية، لم تعد قادرة على استيعاب ردات الفعل السلبية نتيجة التصرفات التي شَوّهتها بعدما اتهمت بدعم حكومة الحرب الاسرائيلية وتسليح جيش الدولة التي كانت تدّعي الديموقراطية، وقد استخدمت انواعاً من أسلحتها في مواجهة المدنيين في الضفة وغزة. والتي زادت منها القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن الدولي لوقف النار وقراري محكمتي العدل والجنائية الدولية التي قالت بوقف العملية العسكرية في رفح، وتزخيم عمليات الإغاثة للشعب الفلسطيني المحاصر قبل أن يقترح الامين العام للامم المتحدة إدراج اسرائيل على القائمة العالمية للجناة مرتكبي الانتهاكات ضد الأطفال في الحروب والنزاعات المسلحة. وكلّ ذلك يجري على خلفية العدوان على قطاع غزة، والتي أدت الى مقتل اكثر من 15 الف طفل فلسطيني من أصل ما يزيد على 36 ألف شهيد، وحرمت 17 الف طفل آخر من عائلاتهم بالاضافة الى ما يقارب 90 الف جريح ونحو 13 الف مفقود. وهو تقرير سيأخذ مراحله التنفيذية عند رفعه إلى مجلس الأمن الدولي في 14 حزيران الجاري، ومناقشته في 26 منه.
على هذه الخلفيات، توقفت مراجع ديبلوماسية امام مجموعة التطورات الاخيرة للحرب الاسرائيلية على غزة، لا سيما منها تلك التي عزّزت منذ فترة الشكوك على مستوى العلاقات الملتبسة بين الإدارتين الأميركية والاسرائيلية، وخصوصاً عند استهداف فريق «المطبخ الدولي» بمَن فيه من غربيين وجنسيات مختلفة في وسط القطاع. وهي أعمال فظيعة انعكست سلباً على مجريات الحرب فأنهت مسلسل «الهدن الإنسانية» وعطّلت المبادرات المتعددة التي سقطت واحدة تلو أخرى، وخصوصاً تلك التي استهدفت وقف النار وتبادل الأسرى بالمعتقلين والموقوفين وإحياء برامج الاغاثة للشعب الفلسطيني وتعزيزه على مختلف المستويات الإنسانية والطبية. وهي محطات سلبية اصطدمت بها مبادرة بايدن الاخيرة التي لقيت حتى الأمس القريب مواقف مؤيّدة من مختلف الدول الاوروبية والعربية والخليجية ودول أميركا اللاتينية، قبل أن تواجه برفض إسرائيل لمندرجاتها بعد اتهام بايدن بالتصرف ببعض البنود التي اقترحتها، وتريّث «حماس» في تقديم أجوبة عليها حتى اللحظة.
وفي هذه الاجواء، توجّهت الانظار الى مصير الضغوط الاميركية التي دأبت عليها منذ فترة طويلة بهدف لجم حكومة الحرب الاسرائيلية ودفع رئيسها بنيامين نتنياهو للتجاوب مع الخطط الاميركية المنسّقة مع دول اوروبية وخليجية وعربية توصّلاً الى تفاهم يُنهي الوضع المأساوي وإطلاق مسيرة الحلول السلمية قبل دخول الادارة الاميركية مدار الانتخابات الرئاسية الشهر المقبل واستئناف برامج التطبيع.
وإن دخل المراقبون الديبلوماسيون في التفاصيل الدقيقة، افاد احدهم وأكثرهم حنكة، انه سبق للادارة الاميركية ان بدأت بتجهيز البديل المنطقي لنتنياهو منذ أشهر عدة، وقدرت التقارير التي تناولت أهداف خطة الوزير في حكومة الحرب بيني غانتس على خلفية السعي الى تعزيز موقعه في الشارع الاسرائيلي عند الدعوة الى انتخابات مبكرة على حساب نتنياهو وحلفائه المتعطشين الى بحور الدم، خصوصاً ان نتنياهو كان لفترات متعددة مُهدداً بالوصول الى باب السجن بعد المحاكمة. وهو ما ترجمته الزيارة التي أعدّت لغانتس في واشنطن مطلع آذار الماضي، فالتقى المسؤولين الكبار في البيت الأبيض والأمن القومي، والتقى وزيري الخارجية والدفاع أنتوني بلينكن ولويد أوستن اللذين شددا على «ضرورة اتخاذ خطوات عاجلة إزاء الوضع الإنساني في قطاع غزة»، كما تبلّغ منهما «مدى إحباط إدارة بادين من الحكومة».
ومنذ تلك اللحظة بنيت الرهانات على تغييرات حكومية يمكن من خلالها ان تفرض الادارة الاميركية رؤيتها للحل طالما انّ المستهدف صار نتنياهو شخصياً، وهو تحوّل عدو بايدن العلني على ابواب الانتخابات الرئاسية بغية تعزيز حظوظ المرشح دونالد ترامب انتقاماً منه ومن طريقة مقاربته للحرب في كثير من المحطات. بحيث انه لم يُقدّر ما وَفّرته ادارة بايدن من مساعدات عسكرية في أسوأ الظروف، والقيادة الاميركية للرد العسكري الدولي الواسع على الهجمات الايرانية التي استهدفت اسرائيل بطريقة جَنّبَتها الاضرار الجسيمة في 13 نيسان الماضي بعد أيام على قصف القنصلية الايرانية في دمشق واغتيال المستشارين الإيرانيين في الأول منه.
ولِمَن خانته الذاكرة ـ يستذكر الديبلوماسي عينه تلك المحطة ـ ليشير إلى ان بلينكن أكد لغانتس صراحة، خلال لقائهما في مقر الخارجية الأميركية، حاجته «إلى خطة إنسانية ذات صدقية وقابلة للتنفيذ قبل أي عملية عسكرية كبيرة في رفح». وهو ما تجاوزته حكومة نتنياهو لتحول دون أي تعديل في اوراق القوة التي سَعت واشنطن الى تجميعها في مواجهتها المباشرة وغير المباشرة معها. ولذلك فقد بنيت سيناريوهات عدة، وأعطى الأهم منها دورا مهما لغانتس الذي هدد لاحقا وفي اكثر من مناسبة بالاستقالة من حكومة الحرب حتى فَعَلها أمس الأول وكان معه وزيران آخران، بعدما تريّث في خطوته 24 ساعة تَلت الإفراج عن 4 رهائن ومقتل 3 آخرين منهم في مخيم النصيرات ومقتل نحو 300 فلسطيني.
وجاءت هذه المحطات بما لا يشتهيه أيّ من السيناريوهات المتداولة، وسقطت عشيّة وصول بلينكن الى تل ابيب آتياً من القاهرة مشاريع استقالة نتنياهو وحكومته كما الدعوة الى انتخابات نيابية مبكرة، توصّلاً الى اليوم التالي للحرب بما يضمن مصالح الجميع، وفي مقدمها ما يخدم بايدن في معركته الرئاسية بعدما «كَشّر» نتنياهو عن أنيابه في مواجهته بدعم قادة الكونغرس ومواقع قوى اميركية اخرى اكثر من مرة، وصولاً الى دعم علني لمنافسه دونالد ترامب.
عند هذه المعايير قرأ الديبلوماسي عينه زيارة بلينكن المرتقبة لتل ابيب ومصير الضغوط الاميركية، مُلاحِظاً انّ هناك فارقا كبيرا بين ان يلتقي بنتنياهو المُنهَك حكومياً، وقد ألقى بثقل القرارات الصعبة مُتكئاً على المتطرفين في حكومته بدلاً من أن يكون مِطواعاً بيد رأس الديبلوماسية الاميركية. وإن الفصل في ما هو متوقع ينتظر هذه الزيارة وما يمكن ان تنتهي اليه. فالظروف تبدّلت بعد «قنبلة غانتس الصوتية» والمعطيات تغيّرت، وباتَ تَوقّع أي سيناريو صعباً وأصبح رهن التطورات في الساعات المقبلة، فلننتظر.