أمّا وقد عاد الزمن اللبناني إلى عقاله الدولي، وأُلْحِقَت الهزيمة النكراء بالعابثين به، فلا بد من البحث عن المعنويات في مكان آخر. وبحمده تعالى توفرت الفرصة مع أزمة المغضوب عليه بنيامين نتنياهو، التي يمكن استغلالها لصرف النظر عن انكسار الهيبة والهيمنة، بعد الدعسة الناقصة التي أُجهضت ولم تكد تبصر النور.
ولصرف النظر عن الهزيمة النكراء، انطلق التبشير بسرعة الصاروخ عن قرب نهاية إسرائيل، التي تقف على قاب قوسين أو أدنى من حافة الحرب الأهلية. وكما عُلِّقت الساعة الشتوية للالتحاق بالتوقيت الصيفي، عُلِّقت التعديلات القضائية في الدولة العبرية المغتصبة لحقوق الشعب الفلسطيني… وكلنا في الهوا سوا.
وبالطبع، تلقفت جماعة «اللي ما عجبه يبلط البحر» أزمة العدو، فسارعت إلى رفع الرايات، وأقامت الاحتفالات، وأغرقتنا بسيول من التحليلات عن سقوط مشروع بن غوريون الصهيوني إلى غير رجعة. فالمهم هو الترويج بأنّ الأزمة العصيبة التي تسبب بها حاكم فاشل سوف تمهد لاقتتال داخلي محتمل يطيح بالدولة الإسرائيلية فلا يعود منها مُخبِّر. وكأن المنظرين الأجاويد يقرأون في كتاب أفعالهم، ويسقطون ارتكاباتهم في لبنان الذي سقط بفضلهم على عدوهم التاريخي، وينصرفون إلى رياضتهم الفكرية المفضلة في تحويل الأمنيات الى وقائع، والتنقيب عن احتمال تحقيقها والتسرع في التشفي والشماتة.
وحجتهم في ذلك ترتبط بأولوية التركيز على القضية المحورية الأهم المتعلقة بزوال الاحتلال وإعادة حقوق الشعب الفلسطيني، وهي أهم بكثير من كل الأمور التافهة على أجندة اللبنانيين، حتى لو وصل سعر صرف الدولار إلى سقوف جنونية، حتى لو كانت مائدة فطور عادية لعائلة عادية مؤلفة من أربعة أو خمسة أشخاص تكلف أكثر من مليون ليرة لبنانية..
فكل المسائل المعيشية من غذاء ودواء وتعليم قشور دنيوية يمكن تجاوزها. الأساس هو في الترويج لتآكل قدرات الشيطان الأصغر من الداخل. والعقبى للشيطان الأكبر.
وكل هذا القصف المتبادل في الفضاء الافتراضي بين الجيوش الالكترونية بإيعاز من زعماء الأحزاب الطائفية على خلفية «ساعة الغفلة»، لا يتجاوز الفولكلور، تماماً كالدبكة والعتابا والميجانا.
تلك هي «ألف باء» المكابرة التي فرضتها العودة عن قرار «إيش يا خال»، وهو بالتأكيد ليس على خاطرهم. قد يرى البعض أنّ الهمروجة كلها ليست حرزانة. لكن للمسألة وجهاً آخر يتعلق بتقنيات تماسك هيبتهم، وخوفهم من أن تتهاوى سلطتهم كما أحجار الدومينو إذا ما تكررت مثل هذه السابقة، التي يتوجسون من إمكانية انسحابها على ملفات أخرى. فلا ينجحون بفرض مرشحهم رئيساً للجمهورية، وفق معادلات خارجية يخضع لها الداخل، ويبتليهم الدهر برئيس لا يحمي ظهر مقاومة عدوها يتهاوى من تلقاء نفسه، كما يروجون.
لذا لن يتهاونوا حيال ما يهددهم بزوال التباهي المعلن والمستتر بقدرتهم على فرض ما يشاؤون ومن يشاؤون، واستغلال كل ما يحصل حولنا ليرسخوا سيطرتهم، من دون إعارة أيّ اهتمام لجميع المكوّنات الأخرى في لبنان.
لكن الخطر الحقيقي الذي قد يسلب هذه الممانعة ثرواتها القومية، لا يتعلق بقطع دابر مهارتها في تأجيج نار المذهبية الحادة.
وهو ربما بدأ مع الاتفاق السعودي الإيراني الذي سلبهم ورقة «مكافحة الإرهاب واستهداف مصادره بالمسيرات والكبتاغون»، وحوَّل عدو الأمس إلى حليف يجب الوقوف على خاطره لاختيار رئيس للجمهورية بمعزل عن لزوميات «ظهر المقاومة».
وقد يستكمل هذه الخطر مفاعيله، إذا ما تحققت أمنياتهم بزوال إسرائيل من الوجود… حينها تنتفي الحجة والحاجة لوجودهم. لذا نحن نشدّ على أيدي الممانعين ونترقب تحقيق أمنياتهم، لأنها ستؤدي إلى تحقيق أمنياتنا… وهي سدرة المنتهى.