في الأول من نيسان/أبريل ٢٠٢٤ تعرّض مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق والذي يُعتبر أرضاً إيرانية، وفقاً لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، إلى قصف إسرائيلي أدّى إلى تدميره ومقتل سبعة إيرانيين أبرزهم قائد الحرس الثوري في سوريا ولبنان الجنرال محمد رضا زاهدي. اعتبرت إيران الهجوم اعتداءً على سيادتها ومسّاً بهيبتها. لذا، قرّرت بلسان مرشدها ورئيسها الرد، فدخل العالم بأسره في مرحلة انتظار. وحدها إسرائيل كان انتظارها ثقيلاً ومُرهقاً ومُكلفاً.
ليل ١٣ – ١٤ نيسان/أبريل، أطلقت إيران ١٨٥ طائرة مسيّرة و١١٠ صواريخ باليستية و٣٦ صاروخاً مُجنحاً (كروز) من الأراضي الإيرانية باتجاه خمسة أهداف عسكرية داخل فلسطين المحتلة. تُقدّر مسافة الرمي بـ١٢٠٠ كلم. تُعتبر هذه الضربة الأولى في التاريخ العسكري، لجهة إطلاق عدد كبير من الصواريخ والطائرات المُسيّرة وعبور أجواء دول أخرى لقصف أهداف في أرض دولة معادية. دور القيادة الوسطى الأميركية في العاشر من نيسان/أبريل، زار قائد القيادة الوسطى في الجيش الأميركي (سنتكوم) الجنرال مايكل كوريلا إسرائيل لمدة يومين عقد خلالهما اجتماعات تنسيقية وظيفتها «الدفاع عن إسرائيل في مواجهة الضربة الإيرانية المنتظرة». توسّع التنسيق ليشمل القوات الجوية الأميركية المنتشرة في المنطقة مع القوات الجوية الإسرائيلية والقوات الجوية البريطانية في قاعدتي أكروتيري ودكلبا في قبرص والقوات الجوية الفرنسية في الأردن، بالإضافة إلى القوات الجوية الأردنية. كما جرى التنسيق بين أجهزة الاستطلاع والإنذار المبكرة الأميركية ونظام القبة الحديدية في إسرائيل ووحدات الدفاع الجوي وبينها منظومات صواريخ باتريوت في عدد من دول المنطقة وكذلك على متن بوارج أميركية في عرض البحرين المتوسط والأحمر، فضلاً عن طائرات وظيفتها تزويد مقاتلات الجو الأميركية والإسرائيلية بالوقود أثناء تحليقها في الجو. كان مُقدّراً أن أول إنذار سيكون مصدره القاعدة الأميركية في تلة هار كيرين في النقب جنوب غرب بئر السبع، وهي القاعدة الأجنبية الوحيدة في إسرائيل وتم تدشينها في العام ٢٠٠٩ «تحسّباً لهجوم إيراني»، ويرمز إليها البنتاغون بـ«الموقع ٥١٢». تضم القاعدة نحو مائة جندي أميركي، بينهم عناصر يعملون على شاشات رادار (X band) الذي يكشف طابة صغيرة على مسافة أربعة آلاف كلم، ويُعتبر الأكثر تطوراً في العالم. يرتدي عناصر الرادار زيّاً خاصاً يحميهم من الإشعاعات الكثيفة الصادرة عنه. يُمكن لهذا الرادار أن يكشف انطلاق صاروخ من إيران خلال ثوانٍ قليلة، أي قبل أن تكشفه القبة الحديدية في إسرائيل بـ٧ دقائق. خلال زيارة الجنرال كوريلا إلى إسرائيل، تم ربط هذا الرادار بنظام انذار يشمل كل القوات الجوية والقوى المشاركة في الدفاع الجوي عن الدولة العبرية. لهذه الغاية أيضاً، من المفترض أنه تم إنشاء مركز قيادة آلية يتعامل مع مئات الأهداف الجوية (مثل هذا المركز متوافر في جيوش عديدة) حيث يجري توزيع الأهداف المهاجمة في الجو من طائرات وصواريخ على وحدات الرمي المشاركة في المناورة الدفاعية. وفور كشف موعد الهجوم، أعلن الأردن عن اغلاق مجاله الجوي أمام حركة الملاحة الجوية المدنية، وباتت منطقة تمتد على طول الحدود الأردنية الإسرائيلية (نحو ٣٣٥ كلم وبعمق أكثر من ٢٠٠ كلم شرقاً) عبارة عن منطقة عمليات دفاع جوي.
سير العمليات ليل ١٣-١٤ نيسان/أبريل، أطلقت إيران المُسيّرات والصواريخ. عادةً تحتاج هذه المُسيّرات والصواريخ المجنّحة إلى فترة من ساعتين إلى ثلاث ساعات للوصول إلى الأهداف المُحدّدة فيما تحتاج الصواريخ الباليستية إلى نحو ٣٠ دقيقة. تمكنت القوات الجوية المُستنفرة من مُلاحقة المُسيّرات والصواريخ المجنحة الإيرانية واعتراضها وإسقاطها عند اقترابها وبالفعل سقط معظمها (وربما جميعها) قبل وصوله إلى الأجواء الإسرائيلية. أما الصواريخ الباليستية، فقد وصلت إلى الأجواء الفلسطينية وشاهدها السكان وصوّرها المراسلون الصحافيون واعترضتها وحدات الدفاع الجوي المشتركة وتمكّنت من اسقاط معظمها ما عدا نحو ١٥ صاروخاً.
كانت المفاجأة أن بضعة صواريخ باليستية اخترقت هذا النظام الدفاعي المتين وغير المسبوق ووصلت إلى النقب وتحديداً قاعدة نيفاتيم القريبة من قاعدة هار كيرين الأميركية وانفجرت وأحدثت أضراراً كبيرة في مطار القاعدة. كما سقطت بضعة صواريخ أخرى على موقع في الجولان. الجدير بالذكر أن إيران لم تستهدف أية منشآت مدنية أو مدناً أو بنى تحتية، وبالتالي تركّز الهجوم على خمسة أهداف عسكرية إسرائيلية. وسرت أنباء غير مؤكدة أن الصواريخ التي وصلت إلى نيفاتيم هي صواريخ فرط صوتية (hypersonic) لكن لم تعلن إيران ولا الولايات المتحدة رسمياً عن ذلك. نتائج الضربة أولاً؛ أثبتت الوقائع أنه لا يمكن لإسرائيل وحدها أن تدافع عن نفسها ضد هجوم إيراني من دون دعم ومشاركة المنظومة الغربية ولا سيما الولايات المتحدة، ويبدأ ذلك من قاعدة هار كيرين في النقب وصولاً إلى القواعد الأميركية والأساطيل المنتشرة في المنطقة، وهذا الأمر يجعل إسرائيل تابعة كلياً من الناحية الدفاعية للولايات المتحدة وتُشكّل عبئاً دفاعياً ضخماً ترزح تحته وزارة الدفاع الأميركية خصوصاً بعدما أعلن أن كلفة مواجهة الضربة الإيرانية بلغت حوالي المليار وثلاثمائة مليون دولار.
ثانياً؛ عدم قدرة إسرائيل على مهاجمة إيران من دون مشاركة الولايات المتحدة ودعمها، أقلّه لجهة الإستعداد لأي رد فعل إيراني على أي رد إسرائيلي، الأمر الذي يفتح الباب أمام احتمال ضربة إيرانية مماثلة. وفي حال قرّرت إسرائيل توجيه ضربة محدودة لإيران من غواصات دولفين المنتشرة في أعماق خليج عُمان فإن ذلك لا يضمن أن ترد إيران بكمية صواريخ أكبر وربما أكثر تطوراً، ما يعني أن ذلك يُمكن أن يُلحق أضراراً بالغة بإسرائيل. ثالثاً؛ يُحاول رئيس مجلس الحرب الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من خلال تلويحه بعمل عسكري إسرائيلي منفرد أن يُعيد صورة الدولة المستقلة لإسرائيل بعدما اتضح اثر الضربة الأخيرة مدى تبعيتها للولايات المتحدة، وكذلك اعادة الاعتبار إلى صورة الردع الإسرائيلي. هنا، يتبدّى السؤال الآتي: إذا كان نتنياهو يُهدّد بالرد بعد إعلان إيران انتهاء العملية، فلماذا لم يرد خلال العملية نفسها أو حتى قبلها ولا سيما أنه كانت لديه فترة انذار كافية لاتخاذ مثل هذا القرار؟ هذا السؤال يستدرج الجواب الآتي: لم يعد بمقدور نتنياهو مخالفة القرار الأميركي ولن يستطيع ذلك مستقبلاً. رابعاً؛ حاولت إسرائيل تظهير صورة نصر استراتيجي وتمجيد القوات الجوية الإسرائيلية وإنجازاتها في الدفاع الجوي، في مواجهة أكبر ضربة جوية غير مسبوقة وإسقاط معظم الطائرات والصواريخ قبل وصولها، لكن الخرق الكبير والمتمثل ببلوغ عدد من الصواريخ قاعدة نيفاتيم المجاورة لقاعدة هار كيرين الأميركية ومفاعل ديمونا النووي نغّص فرحة تل أبيب وترك قلقاً عميقاً في قلب المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية. هل تتعظ إسرائيل من هذه الضربة وتخرج من العنجهية وعقدة التفوّق المطلق ورفض التسويات بعدما أنهت الضربة الإيرانية كل ما حاولت انكاره بعد انتصاري العامين ٢٠٠٠ و٢٠٠٦ في لبنان وبعد ضربة «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول/أكتوبر؟ هل يدفعها ذلك إلى التعقّل الذي يُجنّبها مسار الانحدار الحالي في رمال غزة.. والمرجح أن يستمر إذا مضت في المسار إياه؟