Site icon IMLebanon

التعويل على خسائر إسرائيل

 

من يعرف تاريخ نشوء الكيان الإسرائيلي في فلسطين، لا يستغرب القول إن الإسرائيليين الأوائل، كانوا يربحون بالخسائر. بنوا إستراتيجيتهم في الأساس، على أنهم شعب مضطهد خاسر عبر التاريخ كله. فهم العبرانيون، كما يعلّمون أجيالهم حتى اليوم، وكما يقدمون أنفسهم للعالم، منذ تاريخهم القديم. يتحدثون عن الأثمان الباهظة التي دفعوها من الأموال والأرواح، حين عبروا من مصر إلى سيناء بإتجاه فلسطين، وهذه أول «تجارة لهم بالخسارة» التي يعظّمونها، ويستدرون بها عطف الشعوب عليهم من خلالها.

كذلك يعرضون على العالم، أنهم أهل السبي. فيعظّمون تاريخهم في بابل. وكيف أن الحكام الجائرين، قاموا بسبيهم، فدفعوا من أموالهم ومن أرواحهم، ثمن محافظتهم على الحضور والوجود في التاريخ.

 

يتحدث الإسرائيليون، عن الأثمان الباهظة، التي دفعوها في الحرب العالمية الثانية. وأن النازية كلها، تجسّدت في «المحرقة» الكاذبة التي أصّلتها لهم، وأنها نالت منهم بالملايين: تقتيلا وتعذيبا، وأن من تبقّى منهم فهم من «الناجية».

هذه هي سياستهم القديمة والجديدة، في التقدم من العالم: فهم شعب مضطهد معذّب مسكين، عبر حقبات التاريخ كلها، يستدرون الشفقة بهذه السرديات المؤلمة، ويعظّمونها، ويقيمون الإحتفالات السنوية لها، ويدرّسونها في كتب التاريخ المدرسية والجامعية للناشئة، حتى ينشئونها عليها: شعبا مكسور الخاطر، يحتاج إلى كل من يقف إلى جانبه، لأن أمتهم أحوج الأمم، للعطف الدائم عليها.

 

ومنذ مؤتمر بال في سويسرا العام 1897، نادى زعيمهم هرتزل، للهجرة إلى فلسطين والإستيطان فيها. وكان يشتري ذمم العالم بالمال، ويرشو بها سلاطين بني عثمان. ويرشو بها الزعماء الذين يؤمل منهم الوقوف إلى جانب مشروع الدولة اليهودية، ويكذب عليهم، بأن فلسطين، إنما هي بلاد خالية من السكان. وأن طموحهم، هو إعمار أرض بعيدة قصيّة، إعتدى عليها شذاذ الآفاق، طوال حقبات التاريخ كلها.

هل نتحدث عن وعد بلفور العام 1917، والذي يقدّم فلسطين لليهود، لأنهم شعب مضطهد، يعاني من إجتماع العرب والمسلمين عليه، وهو يستحق دولة تحميه، وأرضا يعيش عليها، بدل أن يظل متشرّدا في منافي وفي أقاصي وفي شتات الأرض من جميع جهاتها.

 

وبعد إنتظام اليهود في فلسطين، منذ صارت تحت الإنتداب الإنكليزي بعد الحرب العالمية الأولى، ظهرت الفرق اليهودية في أوروبا، وفي دول العالم كلها، تدعو اليهود لترك المجتمعات التي يعيشون فيها، والهجرة إلى «أرض الميعاد»، لأنهم وعدوا بها. ومن أجل تحقيق ذلك، قاموا بإغراء اليهود هناك، بالمال وبالخدمات وبالتقديمات، حتى إشتروا منهم ذممهم، وصاروا إلى ذلك «يسوفونهم»، ويؤملونهم كذبا ودهاء وبطلانا، بأنهم سوف يجنون في فلسطين المال والنفوذ والأراضي العظيمة.

لم تتوقف أعمال المؤسسين الإسرائيليين الأوائل عند هذا الحد، فمن لم يستجب لدعوتهم بالرضى والقبول، أرسلوا إليهم الفرق الترويعية الغاشمة والفاجرة، وأوكلوا إليها، تتبّع العائلات اليهودية في مساكنها وفي مجتمعاتها، حيث هي ناعمة العيش وناعمة البال. فكانوا يشاغبونها ويروّعونها في حياتها وفي حياة أبنائها. كانت العائلات اليهودية في كثير من المجتمعات، تستيقظ يوميا على أخبار ترويع الأطفال في المدارس، وعلى خطف حديثي الولادات من حاضنات الأطفال، وعن إعتراض الرجال المسنين والنساء المسنات في الحدائق وفي الشوارع. ويروّجون للأخبار الكاذبة، بأن هناك فرقا مجرمة تحلل الدم اليهودي، لأنها من نسل مصاصي الدماء، ولا منجاة لهم، إلّا بالهجرة إلى فلسطين، حيث هناك إجتماع أمة اليهود كلها، والخلاص من التقتيل والترويع والإبتزاز والعذاب، ومشاق الحياة وقسوتها.

لا تزال إسرائيل تتبع هذا الأسلوب في التقدم من المجتمعات المتمدنة ومن العالم الحر. فهي «مضطهدة»: دولة وشعبا. وهي تدفع الأثمان الباهظة من أجل المحافظة على وجودها في عالم كاره لها، وهو يحيط بها من كل جانب. وهي لذلك، إنما تقوم فقط بالدفاع عن نفسها.

وإمعانا في تضليل العالم، أسمت جيشها، بـ«جيش الدفاع الإسرائيلي»، تميّزا له عن سائر جيوش العالم الطبيعية، وتمييزا له، بأن على عاتقه، مهمة الدفاع بصورة دائمة، لأنه في موقف دائم، يدفع به غائلة الجيوش الطامعة به وبشعبه وبدولتها. وعلى أساس من ذلك، أنشأت له كذبا وبهتانا، عقيدة دفاعية.

إسرائيل، «تتسوق» منذ قديم الزمان بخسائرها، تتسوق بظهورها مظهر الضعيف الذي تطمع به الدول المحيطة به. فتردد دائما أمام شعبها وأمام العالم كذبتها الدائمة: أن خسائرها عظيمة. وهي تستنهض شعبها كما دول العالم، للوقوف إلى جانبها ومساعدتها وإسنادها والدفاع عنها، لأن الشعوب المحيطة بها شعوب «متعطشة لشرب دمائها».

والتعويل اليوم على خسائر إسرائيل، من خلال التحضير للأفلام التسجيلية، التي تصور جسامة القتال في الحرب، وجسامة الخسائر في الأنفس، وبأن الصواريخ التي سوف تطالها، إنما هي بمئات الآلاف، فهذا كله، تحمله إسرائيل إلى العالم، وتبرهن له على عمق شقائها بوجودها، بين مجتمعات، تريد محقها بالصواريخ التي تخزّنها ضدها.

فقد اعتادت إسرائيل على التقدم من العالم، على أنها تعاني من «مظلومية تاريخية» بين الدول العربية، واستطاعت بنجاح أن تسوّقها. وهي تخفي عنهم جرائمها في فلسطين منذ زمن الإنتداب وحتى حروبها المتكررة والمتعاظمة على البلدان والشعوب العربية.

نرى مثلا، كيف يتكفل الموساد بملاحقة أهدافه من العلماء والقادة والناشطين والزعماء. يقتلهم بصورة سرية وبصورة علنية. تماما كما نرى كيف يتكفل جيشها بشنّ حروب الإبادة في فلسطين وفي لبنان، وفي أي مكان يقع تحت يديها، فيرسل طائراته ومسيّراته، لقتل الآمنين وترويعهم وتهجيرهم، وجعل البلاد خالية أمام المستوطنين، أو ساحة لمعاركه القادمة.

اعتادت إسرائيل على «صناعة الخسائر» لنفسها، حتى يقال عنها بين دول العالم، إنها أمة خاسرة مهيضة. فتحصد بذلك جوائز الدعم المادي والمعنوي، وتهبّ إليها الدول الكبرى، تقدم لها أحدث معداتها، وتتعهد لها ببناء ترسانة عسكرية عظيمة، وبإرسال المال العظيم إلى خزائنها، وتسامحها بما عليها من ديون، وبما تعهدت به من سداد النفقات. وهذه هي سياستها التي نشأت عليها طوال العهود والعقود التي مرّت عليها.

تتقصّى إسرائيل أقلّ ما يقع لها في جميع حروبها و عملياتها، وتقدمه على أنه إعتداء عظيم وجسيم يستهدف وجودها. وهي تستفيد من صور الإعلام ومن الفيديوهات والتسجيلات على الجبهات المقابلة لها، فتحملها إلى دول العالم، وإلى أعلى المنابر الدولية، على أنها من الصور الوحشية التي تتهدد وجودها. وهي حين تستهدف المدن والقرى وتمحو معالمها وتبيد سكانها، وتهجّر من تبقّى منهم، بإرسال المناشير وإذاعة البلاغات المهددة والمتوعدة، فإنما تبرر ذلك، بأنها تريد أن تستبق خصومها، لأنهم أصل البلاء عليها.

فالتعويل على خسائر إسرائيل، وأنها تتلقّى الضربات العنيفة، وأننا نهدّد وجودها وكيانها: نخبئ لها الآلاف المؤلفة من الصواريخ البالستية والمفرطة، والقصيرة المدى والبعيدة المدى.. إنما تجعلها تقوى فجورا، على منابر العالم، بأنها مهدّدة في كيانها. فينحو العالم نحونا، ويصبّ جام غضبه علينا، ويتناقل صور الصواريخ الملعلعة والشاردة في السماء، ويتحدث عنها أنها سوف تمحو إسرائيل، إذا لم يقف العالم إلى جانبها.

يجب على الإعلام العربي، أن يتحاشى التعويل على خسائر إسرائيل، لأنه أضرّ بنا. فهو تجاه عدو يبني سياسته الخارجية على أنه شعب ضعيف مظلوم، تهاجمه حماس ويهاجمه حزب لله، بآلاف الصواريخ يوميا، وتمدّه إيران بأحدث أنواعها. وإنما في الواقع لا يحقق منها، أبسط النتائج، ولا أقل الفاعلية. فحجم الخسائر التي وقعت في غزة، تعادل عشرات القنابل الذرية، وحجم الخسائر التي يكابدها لبنان حتى اليوم، تعادل حربا عالمية ثالثة. ولهذا نقول: التعويل على خسائر إسرائيل، لمما نربح بها العدو الإسرائيلي، ونخسر نحن بها!