يبدو بأن اسرائيل تكرر نفس الاخطاء التي سبق لها أن ارتكبتها في حروبها السابقة، حيث أنها اختارت دائماً الظروف المؤاتية لبدء حروبها على مختلف الجبهات العربية، ولكنها لم تنجح في استثمار النتائج العسكرية التي حققتها على الارض، يعود فشل الحكومة الاسرائيلية في استغلال نتائج المعركة العسكرية من أجل خدمة التوصل لاتفاقات أو ترتيبات أمنية واقعية، وفعالة لحفظ أمن حدودها مع جيرانها، وخصوصاً مع لبنان.
سبق لاسرائيل أن اجتاحت لبنان عام 1982 ووصلت إلى العاصمة بيروت، ونجحت في طرد منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات من بيروت، ولكنها لم تعرف كيف يمكن استغلال «الانجاز العسكري» الكبير الذي حققته بمؤازرة بعض الحلفاء اللبنانيين، وبدعم كامل من وزير الخارجية الاميركي الكسندر هيغ لصديقه ارييل شارون صاحب خطة الاجتياح، والذي كان يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وعقد اتفاقية سلام مع لبنان، لكن نشوة الانتصار العسكري على الارض قد دفعت رئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيغن، ومعه الجنرال شارون إلى تجاهل الالتزام بقواعد نظرية الحرب والتي تدعو إلى التعقل في طرح أهداف واقعية لانهاء الحرب والخروج منها بمكاسب سياسية وامنية تبرز على الصعيدين السياسي والدولي قرار شن حرب ضد دولة مجاورة ولا بد أيضاً أن نذكر في هذا السياق ان شارون قد ارتكب مخالفة بتجاهله لمبدأ ثان من نظرية الحرب، والذي يدعو إلى وقف الحرب منذ بلوغها « بسقف التشبع» أي بلوغ الحد الاعلى المعقول لاستعمال القوة العسكرية والانصراف إلى العمل الديبلوماسي بحثاً عن تحقيق مكاسب سياسية.
ونذكر ايضاً وباختصار كلي باحتلال اسرائيل لشريط على طول الحدود اللبنانية، وتجنيدها «لحلفاء» لبنانيين للدفاع عن هذا الشريط لتأمين حروبها الشمالية، وفشلت اسرائيل خلال فترة تزيد عن عقدين في استغلال هذا الشريط، بمساعدة أميركية وأممية للتوصل إلى اتفاقات امنية بحدودها مع لبنان، واستمرت في احتلالها للارض، فاتحة المجال لكل من ايران وسوريا في تنظيم ودعم حزب لله لمقاومتها إلى أن تعبت فعلياً من هذه الحرب، فقررت من جانب واحد الانسحاب من لبنان عام 2000،
لا تترك القيادات الاسرائيية الآن أي شك في خضم أكبر وأطول حرب تخوضها منذ انشاء دولتها ضد كل من غزة ولبنان، وبمشاركة من عدة جبهات أخرى، وبأنها تكرر نفس الاخطاء الكبيرة التي ارتكبتها في حروبها السابقة، وهناك عدة مؤشرات بارزة تؤكد عل ذلك وأبرزها:
أولاً: اعتماد رئيس وزراء اسرائيل لمجموعة غير واضحة على أنها تخوض حرباً لا تفهمها بخطط وأساليب تقليدية، دون اعارة اي اهتمام للدروس التي تعلمها كل من الفرنسيين في الهند الصينية، والاميركيين في فيتنام أو في أفغانستان.
ثانياً: لجأت اسرائيل لاستعمال أعلى عوامل القوة العسكرية بما تملك من وسائل تدميرية وقدرات تكنولوجية من ما تملكه بالإضافة إلى ما زودتها الولايات المتحدة من ذخائر وصواريخ متضررة، فدمرت اسرائيل ما يزيد عن 80 في المائة من البنية العمرانية في القطاع، وقتلت بما يزيد عللى 42000 من السكان المدنيين، ثلثهم من النساء والاطفال، كما جرحت ما يزيد على مئة ألف من السكان العزل، وكان اللافت تعمّد تشديد الحصار على القطاع ومنع دخول المساعدات الانسانية لتفرض حالة من الجوع لم يسبق ان اعتمدت في أي من الحروب الحديثة، وزادت اسرائيل في تجاهلها لكل القرارات الدولية والمناشدات العالمية، ولدرجة دفعت ملايين الناس في زوايا العالم الاربع، وخصوصاً طلبة الجامعات في الدول الغربية للاعتصام والتظاهر تعبيراً عن تضامنهم مع الفلسطينيين في غزة وإدانتهم للحكومة الاسرائيلية.
ثالثاً: من اللافت جداً ان التعنف الاسرائيلي، ومشاعر الكراهية والحقد، وغريزة الثأر، تمنع اسرائيل من اعتماد أية مقاربة واقعية لقبول هدنة أو وقف لاطلاق النار، سواء في غزة، أو في لبنان، وهي تفرض بالتالي استمرار هذه الحرب المدمرة بقصد تهجير السكان عن أراضيهم وقراهم، دون امكانهم أي أمل بالعودة، وذلك من خلال اتباعها السياسة الارض المحروقة وتدمير القرى بشكل كامل.
رابعاً: لم تلتزم اسرائيل خلال ضربتها في غزة أو لبنان بأي من قواعد الحرب، وخصوصاً لجهة الدعوة لحماية المدنيين، وأنه لمن الواضح جداً بأن اسرائيل تعتمد اسلوب استعمال أعلى درجات العنف والتدمير حتى خارج ميادين القتال، وذلك من خلال مدّ علمياتها التدميرية إلى جميع المناطق اللبنانية، امتداداً من مختلف مناطق جبل لبنان إلى أقصى مناطق الشمال، حيث تستهدف مبان وأمكنة مكتظة بالنازحين وبالسكان المدنيين لانزال أكبر عدد من القتلى بين المدنيين.
تدرك اسرائيل جيداً بأنه لا توجد اسباب موضوعية لشن مثل هذه الحرب المدمرة على لبنان، كما تدرك بأن أكثرية الشعب اللبناني لم تسع إلى هذه الحرب، وبانها لا تريد استمرارها، وبأن معطم الناس لا ترى بأنها حربها، بل حرب بين ايران واسرائيل وبمشاركة من أدوات ايران المحلية، وبالرغم من من وضوح موقف الرأي العام اللبناني برفض الحرب فإن اسرائيل مستمرة في حربها الشعواء على كل لبنان، ويبدو بأنها مصممة على استكمال مخططها لتدمير لبنان، وذلك انطلاقاً من حقدها على حزب لله، وتخطيطها للثأر من كل الشعب اللبناني والذي بدأت التحضير له منذ انتهاء حرب تموز 2006،
تدفع الحرب والهجمات المدمرة التي تشنها اسرائيل ذهاباً واياباً ضد شعب غزة وضد لبنان، وضد ايران منطقة الشرق الاوسط برمتها إلى نقطة الغليان ، والتي تمكن التسبب بحرب اقليمية واسعة، وذلك دون ادراك حكومة اسرائيل بأنها غير قادرة على اطفائها أو تحمل نتائجها.
ويأتي هذا الغرور الاسرائيلي نتيجة مخططات تراود أحلام بنيامين نتنياهو حول قدرته على فرض نظام بشرق اوسطي جديد، وهي قاصرة عن تحقيق ذلك، سواء بمفردها أو بالتعاون مع الادارة الاميركية، وان أول اعلان لنوايا اسرائيل باحداث تبدلات جيوسياسية، يظهر من خلال دعواتها بتهديد الضفة الغربية وضمها فعلياً للارض المحتلة، لكن لا بد أن تدرك اسرائيل بأن مثل هذا المشروع لن يمر بسهولة، حتى في ظل ادارة ترامب الداعم للتيار المتطرف في اسرائيل. فالعالم الداعم لحق الفلسطينيين لن يقبل بذلك، وستكون الامم المتحدة مسؤولة عن افشال هذا المخطط .
في النهاية لا بد أن تدرك اسرائيل بأن الدعم الذي تلقته من الولايات المتحدة، والعواصم الاوروبية بعد هجوم 7 اكتوبر لن يدوم، وبأنها مرشحة بخسارته فور ادراك ايران لضرورات التعامل بدبلوماسية سيدفع الغرب وبقبولها للتعاون في كبح طموحاتها النووية.