مرة جديدة يعود السباق بين مفاوضات التوصل إلى تسوية بين «حماس» وإسرائيل وبين التصعيد الحربي على جبهة الجنوب. ويوماً بعد يوم تتزايد حدة الإعتداءات الإسرائيلية على القرى الجنوبية بينما يكتفي «حزب الله» بالردّ بضرب عشرات الصواريخ على المواقع الإسرائيلية والداخل الإسرائيلي ملتزماً قواعد الإشتباك في الردّ، وإن من طرف واحد. يومياً تنهال الأسئلة على قادة «حزب الله» حول مدى جدية إسرائيل في شنّ حرب واسعة على لبنان. بالمفهوم السياسي، الأمر مستبعد من وجهة نظر «حزب الله»، لكن بالمفهوم العسكري الخيار وارد بالنظر إلى طبيعة الكيان المعتدي.
ولكن خلافاً لإدعاءات إسرائيل بانتقالها من حيّز العمل الدفاعي عسكرياً تجاه لبنان إلى الحيّز الهجومي، فإنّ انتشارها على الحدود الشمالية لا يزال دفاعياً وليس هجومياً. ليست المرة الأولى وقد لا تكون الأخيرة التي تهدّد فيها إسرائيل لبنان أو ترسل من يهدّد باسمها، بالمباشر أو بالتلميح، كذلك الموفد الأوروبي الذي زار «حزب الله» يقول «إنني لا أحمل رسالة تهديد، ولكن معلوماتي تقول إنّ اسرائيل جادة في نيّتها شنّ حرب على لبنان».
أكثر من سبب يجعل إسرائيل في حالة تردّد حيال أي عدوان واسع على لبنان. الموقف الأميركي واهتزاز وضع الحكومة الإسرائيلية الداخلي ورفض سكان الشمال العودة إلى مستوطناتهم ما لم تتوافر لديهم ضمانات. عوامل عدة تجعل العدوان الواسع مستبعداً بينما سبب واحد يرجّح احتماله وهو جنون رئيس حكومة إسرائيل وحاجته إلى مكسب يعيد تعويمه سياسياً بعد فشل تحقيق غاياته في غزة.
يرى «حزب الله» أنّ للتهديد الإسرائيلي بالحرب على لبنان أبعاده المتصلة بالتسوية المحتملة مع «حماس» في قطاع غزة. يريد رئيس الحكومة بنيامين نتياهو رفع سقف مواقفه تجنباً للمساءلة متى تم الإتفاق على التسوية، لأنّ أياً من أهداف حربه على غزة لم يتحقق. ولذا قد يحاول الهروب من فشله في غزة بحرب على لبنان، لكن خياره هذا تعارضه أميركا وفرنسا، ودول عدة لن تسانده، فضلاً عن أنّ «حزب الله»، وإن سبق وأعلن منذ بداية حرب غزة رفضه الحرب، إلّا أنّه يستعد لخوضها متى وقعت، وهذا ما أعاد نوابه التأكيد عليه أخيراً، وأكد عليه أمينه العام في خطابه الأخير، حيث أعلن استعداد حزبه للحرب التي قال إنّ لها استراتيجة معينة وليست عبثية.
لغاية اليوم ورغم فداحة الإعتداءات الإسرائيلية ضد قرى الجنوب والبقاع والخسائر الكبيرة في الأرواح والممتلكات، إلا أنّ «حزب الله» لا يزال يؤكد أنّه لا يشارك بكامل قوته وقدرته العسكرية في هذه الحرب، ولم يزل يلتزم قواعد اللعبة العسكرية ونطاق 7 كيلومترات في المواجهة وهي المساحة التي ستكون موضع تفاوض مع المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين.
فالحزب الذي قال إنّه لا يخشى الحرب لا يزال يديرها بكلفة محدودة وبقدرات عسكرية متواضعة لا تكشف عن حجم قوته الحقيقية، لكن لا يريد لإسرائيل أن تفهم تصريحاته عن رفض الحرب على أنّه ضعف أو خوف من المواجهة ذلك أنّ المواجهة الحقيقية لم تقع بعد.
في «حزب الله» من لا يزال يعتبر أنّ التهديد الإسرائيلي بالحرب كلام تهويل ليس بجديد، وأنّ ليس لدى إسرائيل القدرة على شنّها. قد تكون لديها الرغبة لإعتبارات تتعلق بمستقبل نتنياهو وحكومته، وللردّ على تشكيك المستوطنين بقدرته على ضمان عودتهم، ومتى وقعت فإنّ قدرته على خوض الحرب سهلة، لكنه لا يزال يدير المواجهة من زاوية الإسناد والدعم لغزة، ويبدي حرصاً على عدم جرّ البلد والمنطقة إلى حرب. لا يرجّح فرضية الحرب الواسعة، ولكن إن كان لا بدّ فسيخوضها، ولكنه يسأل عن أهداف هذه الحرب بالنسبة إلى إسرائيل. اذا كانت أهدافها من حرب غزة، كما تقول، القضاء على «حماس» وتهجير الفلسطينيين، ولم تحقق أياً من هذه الأهداف، فما هو هدفها من الحرب على لبنان سوى ضمان الإستقرار لعودة سكان الشمال؟ وهذا لن يتحقق. لا يرى جديداً في ما يقوله المسؤولون في إسرائيل ولا في تهديدات الديبلوماسيين. مجرد رسائل ضغط لا تلغي جنون نتنياهو وحاجته إلى عناصر فوز لم يعد يجدها في غزة ولا في جبهة الجنوب.
يعني كل ذلك أنّ الحرب خياراتها مفتوحة واحتمالاتها قائمة، وإن كان «حزب الله» لا يأخذ تهديدات إسرائيل على محمل الفعل الواقعي القريب. لكنه فعلياً لا يقلل من وقوعها وضراوتها متى وقعت، ولكن الأمل الوحيد اليوم صار في عهدة المفاوضات الجارية في مصر، التي عاد التفاؤل في نجاحها مجدداً، وإن كانت هدنة لأيام وليست وقفاً لإطلاق النار.