بين عامي 1975 و1990 نزح ما يقارب 700 ألف شخص. ارتُكبت مجازر من قبل كل الفصائل المقاتلة، وتشير التقديرات إلى مقتل نحو 2.7% من سكان لبنان في أعمال العنف، وجرح 4%، وهاجر من لبنان نحو ثلث السكان. انتهت الحرب باتفاق سياسي وقانون عفو عن كل هذه الجرائم، ولكن بقي أكثر من 17 ألف مفقود، لم تقم الدولة بأي عمل لمعرفة مصيرهم. ببساطة، «اختفى» هؤلاء، وبات هدف الميليشيات الحاكمة طمس قضيتهم بالكامل، من دون تقديم أي جواب لأهاليهم عن سؤال لا يمكن تجاوزه: ماذا فعلتم بهم؟ ماذا فعلت الحرب بنا؟
خلال 15 سنة من الحرب الأهلية خُطف أكثر من 17 ألف شخص، لا يزالون حتى اليوم، بعد انقضاء 26 سنة على نهايتها، في عداد المفقودين. عندما تصالح زعماء الحرب وأقرّوا عفواً عاماً عن جرائمهم كافة، وانتقلوا إلى مرحلة جديدة غير آبهين لآلاف العائلات التي بقيت محجوزة في تلك الحقبة تبحث عن أب وأم وابن وابنة خُطفوا في طريقهم إلى المنزل أو العمل.
للأسف، نجح مجرمو الحرب، بعد وصولهم إلى السلطة على جثث 200 ألف ضحية، في سحب قضية المفقودين من الذاكرة الجماعية للناس وتحويلها إلى قضية فردية تخص كل أسرة من 17 ألف أسرة معنية مباشرة. اليوم، بعد أكثر من ربع قرن على انتهاء الحرب، عدد كبير من الذين عايشوا الحرب باتوا كباراً في السن، ومنهم من مات، وظهر جيل كامل ممن لم تتجاوز أعمارهم 30 عاماً، لا يدري شيئاً عن الحرب، لم يعشها، لم يعرف معاناتها ولم يرَ نتائجها المأسوية، ولا يشعر غالبيته بأي ارتباط مع قضية المفقودين وأُسرهم.
التحدي الكبير اليوم أن تبقى هذه القضية حيّة، أن تُبنى ذاكرة لجيل جديد قوامها أن المفقودين ليسوا أرقاماً، بل هم حيوات، لأهلهم الحق في معرفة مصيرهم، معرفة مَن خطفهم، ومَن نقلهم، ومَن أخفاهم، وفي أسوأ الأحوال مَن دفنهم، للتأسيس مستقبلاً لدولة ديموقراطية لا تُبنى إلا عبر تحقيق العدالة.
يؤكد الكاتب والناشط السياسي بول الأشقر، أن “الدولة مجبرة، ومن واجبها، البحث عن المواطنين الذين فقدوا في أثناء وجودهم على أراضيها، وإلّا تسقط سيادتها لعدم ضبطها الأراضي المسؤولة عنها”. لا يتناقض هذا الأمر مع قانون العفو الذي أُقرّ عام 1990، إذ إنّ “قانون العفو لا يلغي وجوب البحث عن المفقودين، والبحث عنهم لا يعني مقاضاة المرتكبين، إذ أظهرت تجارب عديدة في أميركا اللاتينية أنه يمكن الدول أن تقرر أن لا تقاضي المرتكبين، لكن لم يحصل حتى اليوم أن تخلت دولة عن مهمة التفتيش عن سكانها المفقودين!”.
قانون العفو
لا يلغي وجوب البحث عن المفقودين
في الحديث عن قضية المفقودين، غالباً ما يجري اعتبارها ماضياً، بينما هي فعلياً قضية للمستقبل، وفق المحامي نزار صاغية، إذ لا يمكن تجاوز الماضي إلا عندما يحصل اعتراف بالضحية وحقها بالعدالة كخطوة لبناء دولة قائمة على العدالة والديموقراطية. برأي صاغية، “قضية المفقودين هي الحركة المقاومة الأصيلة لاستعادة الدولة والديموقراطية لأنها الحركة الوحيدة التي لم تساوم وناضلت طوال سنوات للتذكير بالحرب وآثارها، واعتبرت أن إغلاق صفحة الحرب مشروط بالمعرفة”. معرفة ستخلق ذاكرة جماعية وطنية، إذ “ما لم نعترف بذاكرة الضحايا، ستظل ذاكرة الأبطال هي المسيطرة، وذاكرة الأبطال هي ذاكرة طائفية ـ زعاماتية، إنما الضحايا كانوا من كل الطوائف”. فالدولة اللبنانية، وفق ما يعلّق الأشقر، “تقوم بتطييف كل شيء، أي تحوّله إلى قضية طائفية، ما يمنع إمكانية الوصول إلى حل عادل، لكن في هذه القضية لم تتمكن الدولة من القيام بهذا الأمر، علماً أن إحدى الوسائل الوحيدة لتقوم الدولة من المستنقع الموجودة فيه هو عبر إيجاد حل لقضية المفقودين التي ستشكل وسيلة لإعادة بناء الدولة”.
من جهتها، ترى رئيسة «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين»، وداد حلواني، أن السؤال ليس كيف نُبقي القضية حية، بل لماذا لم تُحَلّ هذه القضية بعد مرور أكثر من ربع قرن؟ تقول: “هاجسنا ليس أن لا ندعها تموت، بل كيفية حلها قبل أن نموت”. تدرك حلواني جيداً أن الناس لم يعتبروا قضية المفقودين قضيتهم، والسبب في ذلك يعود إلى “التهميش الذي تعرض له أهالي المفقودين من قبل الدولة، بحيث باتوا ضحايا حرب وضحايا سلم أيضاً”، إلا أنّ “المعركة مفتوحة وشرسة، ولو كان باستطاعة الدولة أن تطمرنا نحن مع القضية لما قصّرت”.
تضع حلواني خطوات عملية لعدم موت هذه القضية بعد مرور سنوات طويلة، فتحمّل المسؤولية الأولى لنقلها إلى الأجيال المتعاقبة “لوسائل الإعلام والإعلاميين الذين عليهم أن لا يشاركوا في طمس الحقيقة، وأن يذكّروا بالقضية دائماً، وليس فقط في المناسبات. كذلك على هيئات المجتمع المدني التي تتعاطى بمسائل حقوق الإنسان أن تلعب دوراً فعالاً في طرح هذه القضية”. أمّا الخطوة المقبلة للجنة، فتقضي “بتحويل الأرشيف الورقي الكامل للجنة إلى أرشيف رقمي، كي يكون بمتناول من يشاء، بهدف تعميم تاريخنا الذي هو جزء أساسي من تاريخ هذا البلد لتشجيع الباحثين والطلاب على رفع الصوت في هذه القضية”.
على الصعيد القانوني، يقول صاغية إنّ “مشروع قانون الأشخاص المفقودين والمختفين قسراً لا يزال في المجلس النيابي. وفي الفترة الأخيرة كانت هناك صعوبة في الضغط من أجل إقراره جراء ما سُمّي تشريع الضرورة. لكن هناك وعد للأهالي بأنّ لجنة حقوق الإنسان ستقرّه وترسله إلى لجنة الإدارة والعدل”.
لا تقتصر قضية المفقودين على لبنان، بل هي قضية عالمية، وما يحصل عالمياً يؤثر فيها محلياً. يشرح صاغية بأن “خلال الـ 25 سنة الفائتة تقدمت قضية المفقودين كثيراً في العالم على الصعيد القانوني، إذ أقرت المعاهدة الدولية للإخفاء القسري عام 2006”. كذلك تتجه الأمور مستقبلاً إلى انتعاش حركة المفقودين في المنطقة، فبحسب صاغية، “عندما تحصل تسوية في سوريا مستقبلاً ستكون قضية المفقودين في الواجهة، وستتعزز بالحراك اللبناني والعكس، ما سيخلق وعياً إقليمياً. في أميركا اللاتينية، حيث حصل حراك مهم بشأن المفقودين، انتقلت التجارب من منطقة إلى أخرى. اليوم لدينا لبنان، العراق، سوريا وقبرص فيها حركة مفقودين كبيرة، وستزداد كلما اقتربنا للتسوية”. التحدي الأكبر بالنسبة إلى صاغية هو كيفية إخراج هذه القضية من ثوب الأمهات لتصبح قضية وطنية، وهنا تكمن الصعوبة، فهل نحن قادرون على إعطائها طابعاً وطنياً؟
نياً؟