المصالحة والتطبيع التركي – الروسي أدّيا إلى تفاهمات واتفاقات ثنائية وإقليمية كثيرة، بعضُها أعلِن عنه وبعضها الآخر لا يزال غيرَ معروف بالنسبة إلى كثيرين. الملف السوري كان واحداً من الملفات الأصعب والأهمّ، وقد تمّت مناقشته بشكل مختلف عن بقيّة القضايا. كشِف النقاب عن بعض ما اتّفِق عليه وبدأت عملية التنفيذ، لكنّ القسمَ الأكبر من المساومات الثنائية حوله، وكما نفهم اليوم، لم يكشَف النقاب عنها، وتُركت إلى مراحل لاحقة مرتبطة مباشرةً بأكثر من حدثٍ وتطوّر إقليمي ودولي يتقدّمها التريّث، وانتظار تسَلّم الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب مقاليد الحكم ومعرفة نواياه الحقيقية في سوريا.
بين ما أنجَزه الأتراك والروس في سوريا خلال شهر واحد، كان لقاء موسكو الذي جمعهما سويّاً مع ايران التي فرَضت نفسَها فرضاً، ثمّ أُبعِدت لاحقاً بسبب رفضِ الفرقاء المحلّيين والشركاء الإقليميين والدوليين تواجدَها، إذا ما كانت موسكو وأنقرة ترغبان حتماً بكسبِ التأييد والدعم لِما تفعلان.
إتّفاق أنقرة أخرج طهران من المشهد إرضاءً للبعض، فوجَد الروس والاتراك نفسَيهما امام تفاهمٍ لوقفِ النار في سوريا، والإعلان عن أنّ الخطوة المقبلة ستكون الاستعدادَ لبدء المفاوضات السياسية بين فرقاء النزاع في الأستانة العاصمة الكازاخية، في إطار اتفاقية نصّبتهما ضامنَين لتنفيذ ما يتَّفَق عليه.
طهران ردّت على الفور فعرقَلت اتفاق انقرة في محيط دمشق، ومنطقة وادي بردى وحماه. وواشنطن تمنّت النجاح للتقارب التركي الروسي، إذا ما اخذَت شروطها ومطالبَها بعين الاعتبار وهذا ما لم يحدث.
كان السؤال حول حظوظ وفـرَص اتفـاق أنـقرة في النـجاح من دون مشـاركة ودور فاعـل لطـهران وواشنطن. فكبرَ حجمه اكثر هذه المرّة الى محاولة معرفة ما الذي يبحث عنه الاتراك والروس في الأستانة؟
المشهد باختصار اليوم يعكس تمسّكَ روسيا وتركيا بانعقاد الأستانة في منتصف الاسبوع المقبل، على رغم غموض الكثير من النقاط حول جدول اعماله والأطراف المشاركة وآلية التنفيذ وأهداف المؤتمر، ومدى رغبتِه في التمسّك بالقرارات الدولية والأممية المتّخذة وفتح الطريق امام جنيف جديد في سويسرا.
تمثيل المعارضة السورية سيكون بطابع عسكريّ تدعمه الآليات السياسية، فمَن سيجلس في الجانب الآخر باسم النظام ؟
لماذا العسكريون لا السياسيون هم الذين يلتقون ؟ كيف سيكون شكل المشاركة التركية والروسية ؟ هل ستأخذ القيادة الاميركية الجديدة مكانها امام الطاولة ايضا أم لا ؟
آخِر ما ردّدته قوى المعارضة السورية كان أنّ اللقاء سيبدأ بمادة الالتزام بتنفيذ شروط اتّفاقية أنقرة المخترقة إيرانياً، وبعدها ستتمّ عملية الانتقال الى جدول الاعمال، وأنّها لن تدخل في ايّ حوار سياسي مباشر من دون التسليم بأنّ الاجتماع يلتزم بالقرارات الدولية المعلنة في جنيف والامم المتحدة حول المرحلة الانتقالية في سوريا.
موسكو قالت لن يكون هناك شروط مسبقة في اجتماع كازاخستان، وأنّ الذي سيتمّ الاتفاق عليه هو الملزم للجميع. أنقرة التي تعيش لحظات صعبة في هذه الآونة ترجّح الصمت، تريد ان تثقَ بروسيا شريكِها الجديد في الملف السوري، لكنّها تريد ان ترى فريقَ عمل ترامب الجديد الى جانبها هناك حتى لا تقعَ في مصيدة روسيّة ايرانية جديدة.
الاجتماعات المطوّلة التي عقِدت بين القيادات العسكرية للمعارضة السورية أدّت الى انقسامات وانسحابات في صفوف البعض. لا أحد يريد التحدّثَ عن اسباب قرار ان يكون العسكر هم المتحاورين امام الخرائط السورية ؟ شركاء انقرة الاقليميون أعطوها الفرصة والمساحة التي كانت تَبحث عنها، ولا يمكن لها ان تفرّط بمِثل هذا الدعم والتأييد الخليجي المشروط ايضاً.
قد تكون أنقرة قبلت الذهاب الى الأستانة، لأنّها أطلقَت يدَها في «درع الفرات، وأبعدت صالح مسلم وأنصاره عن كازاخستان، ونجحت في تحقيق مطلب إبقاء طهران خارج ما يجري إرضاءً للشركاء، لكنّها تعرف ايضاً انّها تغامر بخسارة ما تبَقّى بين يديها من أوراق أهمّها خسارة رهان المعارضة السورية عليها، واحتمال وجود تفاهمات روسيّة اميركية على إبعادها هي الاخرى من المشهد لاحقاً، تماماً كما حدث مع إيران.
التقارب والتنسيق التركي الروسي الأخير في لقاءات سانت بترسبرغ وموسكو وأنقرة يثق ويتمسّك به الطرفان، لكنّ ذلك لا يمنع تركيا من التحسّب وأخذِ خطّ الرَجعة بعين الاعتبار. مساومة أميركية روسية أو طبخة مصالح روسية إيرانية قد تكون بين الاحتمالات ايضا وتقلب الامور رأساً على عقب.
لا يمكن للقيادة السياسية التركية ان تفرّط بأوراق لا تَملكها اساساً، ولا يعود القرار بشأنها لها وحدها. الأستانة قد تريده موسكو «استانيات» كثيرة للتطويل والمماطلة على طريقة «جنيفات» أخرى يريدها البعض لإضعاف مواقف الكثيرين، وحرق أوراقهم قبل الكشف عن سيناريو الحلّ في سوريا الذي سيفرَض عندها فرضاً على الجميع.
لا يكفي أنقرة ان تقول إنّها لن تتخلى عن مواقفها في سوريا ودعمها الدائم لقوى المعارضة مهما كان الثمن. لا بدّ ان تكون حذرة في الأستانة لناحية ما يعدّ له وما يجري هناك والمرحلة التي ستليه. النجاح هناك سيُحسَب لها حتماً، على رغم أنّ فرَصه ضئيلة جداً وسط كلّ هذا الغموض والتكتّم والانتقادات التي بدأنا نَسمعها من الشركاء قبل الخصوم.
والأخطاء المرتكبة ستُحسب عليها وستدفع الامور بمجرى آخر يعقّد المشهد السوري اكثر فأكثر ويتركها في مستنقع الباب وفي قلب المواجهة مع داعش والوحدات الكردية المدعومة أميركياً، وتتحيّن كلّ فرصة للانقضاض والانتقام، ما يُفرح طهران التي تراقب عن بعد متحيّنةً لحظة الشماتة.
والاهم من كل ذلك ان يطيح بمنظومة من العلاقات التي بنتها مع حلفاء اقليميين منَحوها كل ما تريده من دعم ومساندة تحتاجها فعلاً في هذه الظروف السياسية والاقتصادية والامنية الصعبة التي يعيشها الداخل التركي.