IMLebanon

حين يسيح اللبنانيون في جنبات إسطنبول

 

بحثٌ مضنٍ عن دواء تركي وبهارات عثمان ضرورة

 

 

هنا بيروت وهناك إسطنبول. هنا غلاء وهناك غلاء. هنا الدولار «طالع طلوع» وهناك أيضاً. هنا الوجوه قلقة وهناك الوجوه عابسة قاسية. هنا الأسعار «جهنم» وهناك الأسعار نار. نتشابه في أشياء ونتناقض أيضاً في أشياء. لكننا، نحن اللبنانيين العائمين على كمّ من «البلاوي» نحاول أن نتنشّق بعض الهواء في مكان ما، في مكان متاح بلا تأشيرة، كي نشعر بأنفسِنا أحياء. حاولنا وجمعنا صوراً ومشاهد ووقائع قد تساعد من ينشد، هذا الخريف، «شم الهوا» أو دواء مفقوداً أو يومين في رحاب بلاد فيها مياه وكهرباء وخبز- حتى ولو كان من نوع الخبز التركي»سميت».

اللبنانيون مثل «حبات الرمل» في إسطنبول، غالبيتهم في بحثٍ مضنٍ عن أدوية في «الإكزانات» الكثيرة المنتشرة في الشوارع. لكن، هل كل دواء منشود موجود؟ من يتوقع أن يجد كل ما يريد بأسعارٍ «بالأرض» مخطئ. كما أن كثيراً من الأدوية التي تحتوي أكثر من مركب واحد مفقود. دواء كونكورد بلاس مثلا غير موجود من أقصى تركيا الى أقصاها. ليبونورم 10/10 أو 20/10 أيضاً… واللائحة طويلة… هذا لا يعني أن رحلة البحث عن الدواء في إسطنبول ستكون عبثية فاشلة. هناك بعض الأدوية متوافرة بأقل من نصف ثمنها هنا. وهناك أدوية أقل بثلاثين في المئة. والسعر يختلف بين صيدلية وأخرى. و»الشاطر بشطارتو». واللبنانيون «يداومون» في «الإكزانات» الإسطنبولية. فاسطنبول إلى كثيرين أصبحت تساوي: دواء أولاً وبعض نسمات هواء لاحقاً.

 

من زورق إلى مترو

 

أحلى ما في اسطنبول مواصلاتها. قوارب وباصات ومترو وسيارات أجرة. وسائل كثيرة تجعل الآتين من بلاد موعودة بتسيير الباصات الفرنسية – عملاً بمقولة على الوعد يا كمون- يشعرون بالقهر. نستقلّ زورقاً من ثلاث طبقات من محطة الى محطة، من إسطنبول الأوروبية الى إسطنبول الآسيوية. نصعد في مترو. ننزل من باص. نركب في تاكسي. كلّ شيء يمشي مثل عقارب الساعة – السويسرية طبعاً – واللبنانيون الذين يلتقون في بهو فندق أو في إكزانة أو في استراحة على قارعة رصيف إسطنبولي يلقون تحية على بعضهم بعضاً مرفقة بسؤال: توفقتوا؟

 

أساسيّات العيش أصبحت همّ اللبناني. ينظر «إبن البلد»، السائح في إسطنبول، الى الكهرباء المضاءة «المشعشعة» في تفاصيل المدينة التركية فيحزن. يتذكّر بواخر الكهرباء التركية على شواطئ لبنان وشبهات الفساد ومافيات الكهرباء. يحاول أن يحجب نظره قليلاً علّه ينسى فيستريح لكن، للأسف، ما عاد اللبناني قادراً على النسيان ولا على الفرح.

 

فلنذهب معاً في رحلة الى تلك الديار. ننزل في مطار صبيحة الواقع في إسطنبول الآسيوية. هناك يهبط طيران بيغاسوس التركي الإقتصادي. حافلات المطار «هافاس» موجودة 24 ساعة على 24 لتقل الركاب الى ميدان تقسيم بمبلغ 55 ليرة تركية. وهو ما يعادل 115 ألف ليرة لبنانية. ننتقل. لا زحمة سير فجراً. و45 دقيقة قد تكفي للعبور من جهة الى جهة أما العودة غروباً فتستغرق أكثر من ساعتين. الزحمة في ساعات الذروة كثيرة في مدينة تستوعب أكثر من 15 مليون نسمة.

 

مدينة لا تنام

 

إسطنبول مدينة لا تنام ويفترض بالسائح فيها ألّا يفعل أيضاً. نمشي في ميدان تقسيم بلا ملل. باعة وعربات وخبز سميت الساخن اللذيذ ومحار البحر وكستناء وذرة مشوية وكل ما يجذب العين ويفتح الشهية. مصريون كثيرون يسيحون في الأرجاء وآسيويون وأفارقة وأوروبيون. المدينة تجذب كل جنسيات الأرض مع أن ناسها الأتراك لا يفقهون سوى لغتهم الأم. لذا لغة الإشارة تصبح لازمة في كثير من الأحيان. غريبٌ كيف نجح الأتراك في الجمع بين الإنغلاق على أنفسهم وبين جعل مدنهم مفتوحة جاذبة للسياحة.

 

دلال الهررة

 

ندور وندور ونظل ندور في ميدان تقسيم بلا ملل. الكلاب والقطط مزهوة في الشوارع. وأمام كل محل وعربة وتخشيبة علبة تحوي حبوب طعام القطط الجافة مع علبة للمياه. تحتاج تلك القطط الى موازنة خاصة. هذا ما فكرنا نحن به، في بلد يقطعون فيه عنا حتى الخبز، أما الأتراك فبينهم وبين الحيوانات الأليفة علاقة خاصة جداً. إنها تسير بحرية وتستلقي أينما تشاء وتتدلل منتشية. الأتراك يعتقدون أن الرفق بالحيوان يجلب لهم الحظ والبركة. نتابع سيرنا ونحوّر مسارنا مرات ومرات كي لا نزعج كلباً شاء أن يأخذ قيلولة في نصف الطريق.

 

محال الـ»فاست فود» كثيرة. وطبق الشاورما سيّد المأكولات، يُقدّم بلا متبلات. نتناوله على ذوق الأتراك. مطعم الشيف بوراك، واسمه المدينة، يقع عند حفافي شارع تقسيم. وزوّاره «ذوات» وأسعاره نار. والمحل مليء بصور الشيف المؤسس مع أكابر القوم ومشاهير الأرض. والأطباق تقدم على طريقة الشيف مقرونة بنار ودخان كي تجذب العين قبل اللعاب.

 

صرف المال في اسطنبول سهل. إنه يطير مثل الزئبق… محال الصيرفة كثيرة، يميناً وشمالاً وفوق وتحت وهنا وهناك وهنالك. وكل مئة دولار أميركي تساوي 18 ألف ليرة تركية أو أكثر بعشرين ليرة أو أقل بعشرين ليرة. والـ»مولات» بعيدة عن تقسيم، كما الطبيعة الخضراء الرائعة، تنتشر على مسافة من تقسيم. كل شيء مدروس. خطوط المترو تتوقف عند عتبات جامعات إسطنبول. وكل «إسطنبولي» يمشي «مع وجهه»، مثل الروبو، لا ينظرون يمنة و يسرة ولا يجيبون عن سؤال. الشعب التركي قاسي السمات والروح.

 

إلى البازار

 

نتجه عبر قارب نحو مدينة «كاديكوي». نتجه عبر المترو نحو البازار الكبير في اسطنبول… هناك أسواق شعبية تبيع من كل شيء أشياء. هناك سوق البهارات التي تبهر نظر المارة وتشق رائحتها القلب. هناك القلوبات الكاجو والبندق والجوز والصنوبر في أكياس خيش. وكيلو الصنوبر باب أول بثمانية آلاف ليرة تركية أي ما يعادل أربعين دولاراً. والشاي والزهورات أنواع غير أن اللبنانيين يركزون في مشترياتهم على «زهورات ريلاكس» علّها تريح بعضاً من توترهم. اللبنانيون يكادون ينسون «العيش». ونادراً ما يخرجون من تلك السوق بدون بهارات عثمان. نستأجر حمالاً «يشيل» المشتريات ونمضي قدماً. والباعة مستعدون دائماً ليغشوا حتى أنفسهم ويطلبون وهم يختمون الفاتورة «البقشيش». هي كلمة تعلمناها من الأتراك الذين حكمونا فترة طويلة في تاريخنا اللبناني ويمارسونها في تعاملهم معنا في إسطنبول.

 

شوارع وأزقة تتفرّع عن شوارع وأزقة. هناك 3600 متجر في معرض اسطنبول الكبير او ما يسمى «ببازار إسطنبول». والأسعار، إذا قورنت بعملتنا التي «في الأرض» تبقى باهظة… على من يدفع. الجبنة الصفراء والبيضاء تلال وأرتال. وهناك أيضاً العسل الذهبي والأسود. نمشي متلاصقين مع سيّاح من مختلف أنحاء المعمورة وجنباً الى جنب مع كلاب وقطط لها أولوية العبور. وعلى الطريق نصادف كثيراً من العرسان يلتقطون صوراً للذكرى على الطرقات.

 

نستقل المترو نحو مولات أسعارها تقريباً مثل أسعار مولاتنا. والإنتقال من مترو الى آخر يكون عبر بطاقة حمراء، مقابل 8 ليرات عن كل راكب. الجلد التركي له مكانته دائماً كيفما نظرنا. و»الفرجة» طبعاً ببلاش. نعود الى ميدان تقسيم. وبين ذهاب وإياب ندخل الى صيدلية ونخرج من أخرى. فالدواء الى اللبنانيين السائحين هناك يبقى أولوية. نتمهّل عند مطعم لنتناول طبق شاورما ورأس بطاطا مشوية ملغوم بالجبنة والزبدة و»الفواحش». وتناول الكستناء الشهي لا بُدّ منه يومياً. الكيس بخمسين ليرة تركية (كل 18 ليرة تعادل دولاراً واحداً) ويضم أُقّة منه.

 

نمشي ونمشي بلا هوادة. نحسب وزن ما اشتريناه ونتابع مسارنا. نتناول كوب رمان. الرمان في آخر موسمه حالياً «فجّ». والأسماك «يا مين يشيل». أما النرجيلة فتغيب عن أزقة إسطنبول بعكس لبناننا. كنيسة مار أنطونيوس في قلب تقسيم مفتوحة والزائرون من كل الطوائف. ندخل إليها. نتلو الأبانا والسلام. نشعل شمعة على نية أحباب قبل أن نسمع صراخاً في قلب الكنيسة ونرى أحد العاملين فيها، يرتدي تيشيرت عليها رسم الصليب، يطرد شباناً كان أحدهم يشعل سيجارة من شمعة مضاءة. تمثال مار شربل في بهو الكنيسة. نمشي ونقرأ آيات منشورة في كل التفاصيل: «كن مسبحاً، يا ربي، بجميع مخلوقاتك. إن العالم هو أكثر من مجرد مشكلة تحتاج لحلّ، إنه سرٌ مفرح نتأمله في غبطة وتسبيح. أيها الربّ العلي والكلي القدرة والصالح لك التسابيح والمجد والإكرام وكل بركة، فهي بك وحدك تليق، أيها العلي، وما من إنسان يستحق أن يدعوك». تسأل الرجل الذي يحمي الكنيسة عنها فيخبرنا: «إنها تقع في منطقة بي أوغلو في شارع الإستقلال أنشئت عام 1906 وهي من أكبر الكنائس الكاثوليكية في إسطنبول صممت على شكل الصليب وحيطانها الداخلية مغطاة بحجر الفسيفساء».

إحترقت تلك الكنيسة مرات وأعيد بناؤها. إمرأة محجبة تضع نذراً بدورها. والسيّاح يدخلون ويخرجون. وشريط يمنع الزوار من التقدم نحو المذبح. وورود كثيرة عند المذبح. نصلي مجدداً ونغادر.

 

فقراء كثيرون في الأرجاء. نساء يشحذن. وشباب يعزفون على قارعة الطرقات. وأحدهم يضع ولده، إبن الأشهر، على عربة ويعزف على آلة موسيقية الى جانبه. والرجل الصامت واقف مثل الروبو دائماً في نصف شارع الإستقلال. وأينما انتقلنا هناك من اختار العزف وأمامه علبة تجمع بعض القروش التركية.

 

نشتري المسكنات. البانادول أقل توافراً من البراسيتامول. ونشتري كل ما تيسّر من دواء مفقود في لبنان أو باهظ الثمن فيه. محال الحلويات كثيرة. وكلّما اعتقدنا أننا حفظنا كل محتويات شارع الإستقلال تكشفت أمامنا أزقّة جديدة. واللبناني، الذي كفر ببلاده، يملأه الفرح حين يصادف مطعماً صغيراً في شارع غالاتا يضع أرزة لبنانية. نتناول اللبنة وكأنه مرّ عمر على تناولنا إيّاها ونفرح. وهناك زهور بسيطة، متواضعة، تتدلّى في كل مكان، تمنح المدينة سحراً على سحر.

 

نغادر إسطنبول عائدين الى لبنان وحين نحلّق في سماه تعمّ العتمة. وكلّما اقتربنا من مطار رفيق الحريري الدولي تشتدّ روائح مجارير لا تجد مصرفاً لها إلا في بحر لبنان. نفرح أننا وصلنا أو نحزن؟ إنه قدرنا.