الفيلم الرائع، Suffragette، للمخرجة سارة غافرون، الذي يروي نضال النساء البريطانيات في أوائل القرن العشرين لنيل حق الاقتراع، وكان دونه الضرب والتعذيب والكثير من الدماء المراقة، جعلني أفكّر في تفجيرات برج البراجنة وباريس المجرمة. جعلني أفكر في ما يعانيه السوريون اليوم من قتل وتعذيب وتخويف. جعلني أفكر في نفاياتنا، في حروبنا، في غاندي، في مانديلا، في المحتجين على حرب فيتنام، في الدماء التي أريقت في ساحة تيان ان مين، وفي كل الظلم الذي يمارَس والأرواح التي تُزهَق حياله في سبيل الحرية والكرامة في هذا العالم.
جعلني، في اختصار، أفكّر في “الثمن”.
ثمن أن نكون بشراً. أعني بالبشر حقوق البشر، كرامة البشر، أمن البشر، راحة البشر، طمأنينة البشر، حرية البشر. إنسانية البشر. أقول البشر، لأن القصة ليست قصة نساء ورجال، ولا قصة ثوار وموالين، ولا قصة غاصبين ومغتصَبين. هي بكل بساطة قصة الإنسان الذي يستحق أكثر بكثير من أن يبذل وقته وجهده وحياته ليحصل على ما يفترض به أن يكون حقاً من حقوقه. لا أكثر، لا أقل.
ولكن، كيف السبيل الى ذلك، في عالم يسير عكس الانسانية وعكس الطبيعة؟ كيف السبيل الى ذلك، والقوي المتسلّط يكافأ، بينما النبيل يعاقَب؟ كيف السبيل الى ذلك في عالم يتعامل مع الكرامة والحقوق كأنها ترف، ومع القتل والاجرام كأنهما طبيعيان، ومع الفساد والزعرنة والاستقواء على الضعيف كأنها شطارة؟ كيف السبيل الى ذلك، أقول، في عالم مقسوم مشطور مفتت، ينشغل فيه كل طرف بإلقاء اللوم على الطرف النقيض أو المنافس، من دون أن يمارس الحد الأدنى من النقد حيال ذاته وأدائه؟
في اختصار، لا تستوعب غالبيتنا أن المرء يمكنه أن يكون “حرّاً”، وأن تكون لديه المسافة النقدية ذاتها مما يراه ويسمعه، وألاّ ينقاد كالدمية وراء قيادة دون أخرى. أي أن يتمرد على القطبية التبسيطية التي تستهلك الفكر النقدي وتهين ذكاءه، والتي يتطلب الخلاص منها بعض الجرأة الأدبية والفكرية، والصدق مع الذات، فقط لا غير. كما يتطلب فتح العينين أيضاً. فتح العينين خصوصاً.
أقول ذلك لأن مصيبتنا الأولى اسمها العمى الطوعي، بمعنى الاصطفاف الاوتوماتيكي وراء جهة دون أخرى، وراء دين دون آخر، لأسباب لا علاقة لها بالعدالة، والمنطق، والموضوعية، والرزانة، وسواها من العناصر التي ينبغي لها أن تحدد سلوكنا ومواقفنا مما يحيط بنا. هو العمى أجل، البعض يسمّونه إيماناً، وكم من الجرائم تُرتكَب بسببه!