عندما توفيت سناء، شقيقة سمير القنطار، بسكتة دماغية حزناً عليه، شعر بأنه أمام قصة خيالية: أخت تموت لفراق شقيقها. قصة مستحيلة حصلت معه، ومع شقيقته، يقول. فماذا ترانا نقول، حين نقرأ كامل قصة سمير القنطار: المقاوم، فالجريح، فالأسير، فالزوج، فالأب، فالمقاوم مجدّداً، والشهيد أخيراً؟
كان قد مرّ شهر ونصف على اعتقال سمير القنطار (مواليد 1962) من قبل قوات الاحتلال الاسرائيلي، عندما راجع نفسه. بين جلسة تحقيق، وأخرى، انتبه ابن السابعة عشرة الى أنّ جروحه لم تبدأ مع الإصابات الخمس التي تلقاها خلال تنفيذه عملية «جمال عبد الناصر» في نهاريا عام 1979 وتسبّبت في اعتقاله. تاريخ إصابته يعود إلى اليوم الذي أخبره فيه والده أن الاسرائيليين احتلوا فلسطين وطردوا شعبها.
يروي للزميل حسّان الزين، كاتب «قصتي»، أنه كان في العاشرة من عمره مع والده في السيارة «ومررنا بجانب مخيم صبرا. صدمتني بيوت التنك هناك، لا أراها بهذا الوضوح حين أنظر إلى بيروت من بيتنا في عبيه. سألته عنها وعمن يسكن فيها، قال إنهم الفلسطينيون الذين شرّدتهم إسرائيل». منذ ذلك اليوم، اعتبر سمير القنطار أنه صار طفلاً «وُلد بلا أسرة ولا عائلة. أبي صار مثل صديقي (…). لم أصدّق أن المدارس أقفلت بسبب الحرب حتى أسرعت إلى حمل السلاح. كنت مستعجلاً لأغدو فدائياً، لا جندياً في أي جيش عربي. هجرت الكتب والدفاتر التي كنت أرسم عليها خريطة فلسطين وعالمها وتحتهما اسم: الشهيد سمير القنطار».
هكذا، كانت النهاية واضحة بالنسبة إليه، سيقضي شهيداً. أدرك الفتى الجبلي باكراً مهمته في الحياة، فلم يضيّع وقته. راكم كلّ خبراته، في سبيل خدمة هدف واحد: استعادة الأسرة التي حُرم منها مئات آلاف الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والأردنيين والمصريين، وكلّ من استهدفهم المشروع الصهيوني.
توجّه إلى فلسطين في نيسان 1979، قائداً لعملية تهدف إلى أسر جنود إسرائيليين بهدف مبادلتهم. حفظ جيداً الثياب التي ارتداها ذلك اليوم، «جاكيت خضراء قصيرة وقميص بيج ضيّق وبنطلون أخضر تشارلستون»، حتى بدا فتى «يستعد لموعده الأول مع فتاة أحلامه». وبقي يهتم بثيابه، حتى في أحلك الظروف. كاد يطيح عملية التبادل، لأن الاسرائيليين أتوا له في اليوم الأخير من سجنه بسراويل تشبه ثياب راقصي الباليه. قال لسجّانه «أمضيتُ ثلاثين سنة في السجن محافظاً على كرامتي ولن أسمح لكم في آخر نصف ساعة لي في السجن بإهانتي». كذلك طلب أكثر من مرة من المنسّق الذي كان يتواصل معه في السجن، عبر هاتف سري، أن يجهزوا له ثياباً عسكرية يرتديها فور وصوله إلى الأراضي اللبنانية، محرّراً في 16 تموز 2008. حتى إن المنسّق نقل له تعليق السيد حسن نصرالله على طلبه المتكرّر: «لكثرة ما سألت السيّد عن موضوع الثياب العسكرية ملّ وقال، لو لم يكن سمير عنيداً هذا العناد لما بقي حياً ثلاثين سنة في السجن والتعذيب ومواجهة العدو».
عناده هذا، صنع يديه. هو من ربّاه كما يقول، أو كما اكتشف عندما تلقى في عام 1981 رسالة متأخرة من والده عاماً كاملاً. أخبره فيها أن شقيقته سناء توفيت بسكتة دماغية «ما أقساني. كنت أشعر بحبّها، تبكي لفراقي، وكلما عدت إلى البيت رجوني ألا أغادر. وأنا أبتسم وأحتضنها وأقبّلها وأعدها بالعودة (…). كيف ربّيت لعنادي وجهاً آخر، حداً آخر؟ ذروة القسوة في فراقها الآن، في اعتقادي أنني روّضت حبّها لي، وفي تجاهلي انعكاسات غيابي. لم أتخيّل للحظة أن قتالي ثم احتجازي سيسببان هذا. لم أتخيّل أن هذا يحصل مع البشر: أخت تموت لفراق شقيقها. كانت هذه قصة خيالية، مستحيلة واقعياً بالنسبة إليّ، وحصلت معي، ومع أختي».
وعناده هذا، جعله يخوض معارك كثيرة داخل السجن من أجل تحسين ظروف الاعتقال، وأبقاه على تماس مع ما يحصل خارج السجن، خصوصاً بعد انطلاق المقاومة اللبنانية في عام 1982 «التي أحضرت لبنان إلى مسمعي وعقلي ووجداني». قبل ذلك «كان مكاناً ولدت في جبله، ومعبراً نحو فلسطين. لكن منذ انطلقت المقاومة اللبنانية تغيّرت الصورة».
في عام 1999، وجد نفسه مجدداً «على عتبة لبنان»، عندما وصلت الدفعة الثانية من أسرى حزب الله إلى سجن نفحة، في إطار عقوبة لهم بعد اكتشاف خلية كانوا يشكلونها في سجن عسقلان. «شعوري بأنهم ليسوا متروكين مثلي، وبأن لديهم حزباً سياسياً يسعى لحريتهم طمأنني، جعلني كمن يدخل تحت غطاء في ليل بارد (…). وبما أنه لا مقاومة في لبنان إلا مقاومة حزب الله، وأيّاً منا لن يخرج من هنا إلا بعملية تبادل تنجزها المقاومة الإسلامية، باتت قضيتنا واحدة».
وبالفعل، لم تخيّب المقاومة أمل القنطار، ونفّذ مجاهدوها في 12 تموز 2006 عملية أسر لجنود إسرائيليين بهدف إجراء عملية تبادل كان هو عنوانها الأبرز. وبعد حرب استمرّت 33 يوماً، لم تستطع أن تحقق فيها شيئاً من أهدافها، وافقت الحكومة الاسرائيلية بعد عامين على عملية تبادل تطلق فيها سمير القنطار، وخمسة من المقاومين، إضافة إلى جثامين مقاومين عرب ولبنانيين. هكذا، أقفل سمير في 16 تموز 2008 الباب على زنزانته في القسم رقم 3 من سجن هداريم، بعدما أمضى يومه الـ10678 والأخير في الزنازين الاسرائيلية. وبعد ساعات فقط، كان يعلن من الضاحية الجنوبية لبيروت أنه لم يخرج من فلسطين إلا ليعود إليها.
لذلك، كانت التهديدات الاسرائيلية تلاحقه، وكان يأخذها على محمل الجد، من دون أن يعني هذا خوفاً منها، كما قال لـ«الأخبار» في مقابلته الأولى مع الصحافة بعد تحريره. وقد بقي القنطار تحت الضوء بعد الإفراج عنه، فواكبت وسائل الإعلام أخبار زواجه من الإعلامية زينب برجاوي، وولادة طفله علي. كذلك غطّت نشاطاته الداعمة للمقاومة الفلسطينية، في ظلّ استمرار نشر أخبار عن عودته إلى العمل المقاوم. وقد انتشر اسمه بين شهداء الغارة الاسرائيلية التي استهدفت موكباً للمقاومة الإسلامية في 18 كانون الثاني 2015، في منطقة القنيطرة السورية، ثم جرى تكذيب الخبر لاحقاً.
أمس، لم يكن هناك متّسع لتكذيب الخبر. على بعد أمتار من الجولان السوري المحتلّ، كان القنطار يتابع مهمته قبل أن تغتاله آلة القتل الاسرائيلية، من دون أن تتبنّى ذلك. اكتفى ساستها بالشماتة، معتبرين أن «من الأمور الطيبة أن أشخاصاً مثل سمير القنطار لن يكونوا جزءاً من عالمنا».
كلام يسرّ كلّ من يسمعه، لأن سمير القنطار لا يمكنه إلا أن يكون جزءاً من عالمنا نحن. نحن الذين تخيّلناه أمس مبتسماً، كما كان في نيسان 1979، لأنه في طريقه إلى حبيبة قلبه، فلسطين. هذا البلد الذي تعلّقت به مشاعر الملايين، وشكّل وجدانهم، وكان موقفهم منه شاهداً على إنسانيتهم. يكونون إلى جانبه، أو لا يكونون. يكونون في مواجهة إسرائيل، أو لا يكونون.