«البوسطة» التي اقلّت النواب اللبنانيين، من «خرّيجي» دورة العام 1972، الى مدينة الطائف، المدينة التي أُلصق اسمها بدستور «بلاد الارز»، لم تكن تتسع لممثلي الامة الاثنين والستين، الوافدين الى قبلة المسلمين في «بلاد الحرمين الشريفين»، ليتسوّلوا تسوية فُرضت عليهم فرضا، ولُقنوا على انها «مُنزلة»، كيف لا.. والكعبة هي الشاهد على الاستسلام لموازين القوى التي كانت قائمة في ذاك العصر.. للخروج من دوامة الحرب التي استمرت خمس عشرة سنة… فهل يصح اليوم ما قاله احد المشاركين في «الطائف» قبل اكثر من ربع قرن.. «ان حقوق المسيحيين ضاعت بين بوسطة عين الرمانة وبوسطة الطائف»؟.
يبدو في السياسات التي ينتهجها تحالف حزب الله والتيار الوطني الحر، ومنذ الاعلان عن وثيقة التفاهم بينهما، انها تسير باتجاه الوصول الى مؤتمر تأسيسي يكفل اعادة رسم خارطة توزيع السلطة وتنظيمها بين الطوائف والقوى السياسية، انطلاقا من ان ما حمله اتفاق الطائف، والذي جاء نتيجة تسوية فرضتها ظروف الحرب اللبنانية، رجح كفة مصالح طائفة على حساب طوائف اخرى.
وترى اوساط سياسية ان معركة اسقاط الطائف اطلقت منذ سنوات، وان كان في الظاهر لم يسمّها احد «معركة»، وان تلطّت تحت مسميات «ملغومة»، كالدعوة الى عقد مؤتمر تأسيسي، المشهد القائم على الساحة السياسية اليوم، بالقول.. ان الظروف السائدة في لبنان والمنطقة، ومعها حسابات القرى السياسية المحلية، التي بمجملها تشكل مكونات طائفية، تضع اتفاق الطائف على المشرحة، ليكون من المسلمات التي ينبغي النظر اليه والى تركيبته، انطلاقا من ان الاجحاف الذي لحق بالمسيحيين، لم يعد من شأنه ان يعطي سلطة قابلة للحياة، فيما يُصر الفريق المستفيد منه، ان يقاتل بكل ما اُوتيَ من قوة من اجل تثبيته وعدم المساس به، وهو سبق له ان سوّق في السنوات الماضية على انه «قدس الاقداس» لا يمكن المس به، لكن الظروف الاستثنائية التي فرضت «الطائف» ليست بمستوى الخطورة التي يعيشها اللبنانيون اليوم، والاوضاع السائدة اليوم، لناحية الشلل في عمل السلطة والغبن المخيف الذي يلحق بالطوائف المسيحية وسط بحر اسلامي يطغي عليه الوجه المتوحش الذي يفتك بكل الاقليات، ستفرض على الجميع البحث عن صيغة حكم بديلة.
وتعتبر الاوساط نفسها، ان الفراغ الرئاسي الذي يدخل عامه الثاني، هو احد افرازات اتفاق الطائف الذي «انتزع» صلاحيات رئاسة الجمهورية التي تشكل الموقع المسيحي الاول في «بلاد الارز»، ويغتصب او يشل مواقع مسيحية اخرى في السلطة من خلال اجراء تعيينات في طوائف اسلامية والتمنع من اجراء تعيينات في طوائف مسيحية، وهنا برزت «جدارة» الحكومة في اجراء تعيينات اسلامية، ومنها تعيين امين عام مجلس وزراء جديد، والامتناع عن تعيين قائد جديد للجيش، فهل شرّع الطائف للفراغ الدستوري؟ الذي وان حصل، ما هو الحال اليوم، يمكن للحكم ان يستمر؟
وتلفت الاوساط الى ان الدفاع المستميت لبعض القوى السياسية عن اتفاق الطائف، وفي مقدمهم تيار المستقبل، هو ترجمة حقيقية لحجم المصالح السياسية التي وفرها الطائف له، سيما وانه يستأثر بالطائفة السنية ويتبرع على زعامتها، وتقول الاوساط، لقد صوّروا اتفاق الطائف على انه مقدس ولا يجوز المس به، في زمن تُمس فيه الكنائس وتُحرق الايقونات وتُشوه المقامات المسيحية، ولا احد يسأل..وتتبدل خرائط دول المنطقة وتقام الانقلابات وتُقلب المقاييس والمعايير في اكثر نظم وقوانين العالم، ثم يأتي من يقول..المس باتفاق الطائف خط احمر.. وترى الاوساط، ان الموافقة على عقد مؤتمر تأسيسي ولو لمجرد الحديث عن تعديلات دستورية تُعيد لموقع رئاسة الجمهورية بعضا من الصلاحيات، يضعه الفريق المستقبلي في خانة الهمز من قناة النظام الرئاسي في لبنان، كبديل عن اتفاق الطائف الذي رعته المرجعية الاقليمية للتيار.
ثمة ازمة عميقة بين اللبنانيين، الذين يصف فريق منهم اتفاق الطائف بـ «الانجاز الكبير » والحديث عن مؤتمر تأسيسي يصيغ عقدا جديدا بين اللبنانيين قفزة في المجهول، فيما فريق آخر بات ينظر الى الطائف على انه مصدر الازمات ومنبع الصراعات بين اللبنانيين، ولا بد من استعادة الصلاحيات المسلوبة للمسيحيين، وتضيف الاوساط: ان موازين القوى الداخلية، هي وحدها القادرة على صناعة دستور لبناني يعيد توزيع السلطة بما يراعي كافة الاطراف والطوائف، ويزيل الشعور بالغبن والظلم، طالما ان الطائف عجز في الوصول الى الدولة العصرية التي يصبو اليها اللبنانيون.
حتى مع اتفاق الطائف الذي حرمهم من نعمة السلطة في موقعها الاول، تكافح القوى السياسية المسيحية من اجل انتزاع حقها في اختيار ممثليها في المجلس النيابي وفي الحكومة، وتسأل.. ما يسعى اليه المسيحيون لتحسين واقعهم وحيثيتهم في السلطة، حصل عليه المسلمون منذ بدأت جلسات الكواليس التي عقدت في المدينة السعودية التي يحمل الدستور اللبناني اسمها «الطائف»!.
وتسأل الاوساط، ماذا بقي من اتفاق الطائف، بعد مسلسل طويل لم ينتهِ بعد، من التمديد للمجلس النيابي وحكومات تصريف الاعمال ووقف العمل في التعيينات الادارية والتمديد في مراكز حساسة، وغياب الانتظام في عمل المؤسسات والادارات، والتلاعب بالقوانين الانتخابية بعكس مشيئة الطائف ومقرراته الواضحة في هذا الشأن، والتطنيش عن تأسيس مجلس للشيوخ… بالتأكيد، ان اتفاق الطائف تمت صياغته ليُشرّع لاي فراغ في رئاسة الجمهورية، طالما ان الحاكم الفعلي للبلاد هي الحكومة ورئيسها.
وتخلص الاوساط الى القول، قد يكون الفريق السياسي المطالب ضمنيا، بالاطاحة باتفاق الطائف والوصول الى صيغة دستورية بديلة، يحتاج الى ظروف ضاغطة اكثر، ليجد الجميع نفسه امام مأزق كبير..لن يخرجوا منه الا بتسوية تفوق بكثير مخاطر ظروف نشأة تسوية الطائف، للوصول الى دستور بديل تُعيد للمسيحيين، وبمباركة طوائف اخرى متضررة من الطائف، حقوقهم في السلطة… وهي حقوق لطالما اعتُبرت مغتصبة من تسوية الطائف.