التغيير في القضاة لا يغيّر ضرورة حصر مهام القضاء العسكري
لا بد من فك الارتباط بين دعم الجيش والإبقاء على المحكمة العسكرية
بدأ زلزال «إخراج» ميشال سماحة من السجن يُلقي بظلاله على القضاء، بعد افتضاح فداحة وحجم الأضرار والمخاطر التي تركها قرار إخلاء سبيل مجرم بهذا الحجم، وناقل متفجّرات بالتنسيق مع أركانه في سوريا..
وتبدو في الأفق محاولة لاستيعاب ذلك الزلزال عبر الحديث عن إخضاع رئيس محكمة التمييز العسكرية للتحقيق من قِبل التفتيش القضائي الذي استدعى القاضي طاني لطوف وحقّق معه في القرار الذي أصدره في ملف سماحة.
ومن التداعيات بدء الحديث عن تغيير ضبّاط محكمة التمييز الذين أصدروا حكم إخلاء ميشال سماحة، وهو ما رحّب به أمين عام تيار المستقبل أحمد الحريري واعتبره خطوة إيجابية.
ورغم أهمية هذه الخطوة، إلا أنها لا تكفي للهدوء والاستكانة، فأين الضمانة في أنْ يكون القضاة الجدد مختلفين عن سابقيهم؟ وماذا يضمن أن يحصل التعديل في السلوك في محاكمة سماحة كتمرير للوقت، ثم نعود إلى المربع الأول؟
في هذا السياق، نرى ملامح استدراك لخطيئة إطلاق سراح ميشال، ليس الغايةُ منها تعديل كفة العدالة المائلة، بل المقصود منها السعي لوقف الحملة السياسية والإعلامية والشعبية ضد القضاء العسكري، عبر القول بأن الخطأ جرى استدراكه، وحصلت تعديلات ترضي المعترضين على سلوك المحكمة، وبالتالي لم يعد هنالك داع لاستكمال الحملة الداعية الى إنهاء القضاء العسكري وحصره بالعسكريين والقضايا الخاصة بهم..
وفي هذا الصدد نقول: إن مشكلتنا مع القضاء العسكري لا تكمن في الاشخاص، فقد يمرّ في المحاكم العسكرية «قضاة» من أصحاب الضمائر الحية، فينصفون بعض من يقع تحت أيديهم من الموقوفين، وقد يكون في القضاء المدني قضاة باعوا ذممهم بشروى نقير.. بل إن مشكلتنا هي مع النظام القضائي الذي تستند إليه هذه المحاكم الاستثنائية التي تشكل أحد وجوه اعتداء العسكر على الحياة المدنية بشكل عام، وهي مظهر من مظاهر تمدّد العسكرة في الحياة السياسية والاجتماعية وهي ذراع يخترق العدالة ليفرض منظومته الخاصة في معالجة ملفات ليست من اختصاصه، ولا يمكن التسليم بهذا السلوك نظرا لما يمثله من خطر على المجتمع.
دفاع غير منطقي عن القضاء العسكري
من أغرب ما جرى في غمار المواجهة حول المحكمة العسكرية، تخصيص «مرجع عسكري» صحيفة «ممانعة» لينبري إلى الدفاع عن ممارسات القضاء العسكري، وليؤكد أن «المحكمة العسكرية..باقية»، وليعتبر أن «إطلاق النار على المحكمة ليس سوى إقرار بعجز اصحاب الحملات تلك عن وضع ايديهم عليها. القرار في ملف سماحة امر، والحاجة الملحة الى المحكمة العسكرية امر آخر. في احسن الاحوال ما يجعلها تختلف عن سواها من المحاكم المدنية انها اقل ارتكابا للاخطاء، وفي الغالب لا ترتكبه. لم ترتكبه في ملف سماحة ما دام القرار كان للقاضي المدني لا للاعضاء الضباط. لا ملفات نائمة في ادراج المحكمة العسكرية شأن سواها، ولا ملفات ترحّل من سنة الى اخرى».
يدافع هذا «المرجع» عن المحكمة العسكرية، وكأنها محكمة ملائكية لا ترتكب الأخطاء، وإذا حيّدنا ملف ميشال سماحة، هل يعرف هذا «المرجع» حجم التجاوزات بحق الموقوفين في قضايا الإرهاب تحديدا؟ وكم من الموقوفين قضوا أضعاف ما يوجب عليهم القانون من عقوبات؟؟
إلا أن النكتة السمجة هي الادعاء بأنّه لا تراكم للملفات في المحكمة العسكرية، وكأنّ «المرجع» لم يسمع بموقوفين قضوا عشر سنوات بدون محاكمة؟؟؟
ومن الحجج التي ساقها «المرجع العسكري» قوله إنّه «لا يسع قيادة الجيش في أي وقت الموافقة على إلغاء المحكمة العسكرية على نحو ما يطالب به البعض، في وقت تنحو دول عظمى الى استحداث محاكم استثنائية لمواجهة الارهاب الذي يضرب في كل مكان. بل ليس في وسع المحاكم المدنية إصدار أحكام في ملفات الارهاب، بينما يعجز المجلس العدلي ــــ وهو محكمة استثنائية ــــ عن بت عشرات الملفات العالقة لديه المرتبطة بالارهاب».
يعتبر «المرجع» أن المحكمة العسكرية هي محكمة مختصة بالإرهاب، وهذا خلاف الواقع، فهي لم تطوّر في أنظمتها ولا وسائل تحقيقها ولا منهجيتها ولا تشبه بأي شكل من الأشكال أي محكمة في الدول الكبرى تختص بقضايا الإرهاب.. وبالطبع فإن المحاكم المدنية غير قادرة على حمل هذا العبء، لذلك، فإن الحل هو في إنشاء المحاكم المختصة، كما هو وارد في مشروع الوزير أشرف ريفي. كما إنّه من المستغرب على «مرجع عسكري» أن يطعن بمحاكم أخرى خاصة أنّه يعلم أن التعقيدات التي يعانيها المجلس العدلي ناجمة عن الصراع السياسي على القضاء..
لذلك، لا يمكن التسليم بنظرية أنّه «لا بديل من استمرار المحكمة العسكرية التي يتمسك بها الجيش كمرجع هي الاقدر على جبه ملفات الارهاب، على نحو مماثل للحرب الضارية التي يخوضها على الارض ضد الارهاب..»، ومن غير المفهوم الاتكاء على كلام عام لقائد الجيش العماد جان قهوجي يتحدّث عن تحوّلات المنطقة التي «تعبر (..) مرحلة تبديل العصور (..) مع ما يمكن ان تجرفه تحوّلات كهذه من دول صغيرة تلغيها، او دول كبيرة تفتتها. تلك هي عبرة التاريخ. وكي لا يكون لبنان يوما على طاولة التفاوض لتقرير مصيره، لا يسع الجيش الا ضمان امنه واستمراره في مواجهة الارهاب».
والحقيقة أن هذا الكلام لا يتناسب مع مقام الحديث عن المحكمة العسكرية، ويدعو إلى التساؤل: هل لبنان أقوى من الدول الكبرى التي تتفتّت؟
وهل دعم الجيش ببعده الأمني والعسكري مرتبط بدعم القضاء العسكري، وما الرابط بين الدعم للمؤسسة العسكرية وبين المحكمة العسكرية؟
كما أننا لا نسمع للجيش صوتا تجاه انتهاك «حزب الله» للحدود والقتال في سوريا، والحزب ضرب إحدى أهم مهمات الجيش وهي حماية الحدود.. بالرغم من أن سياسة الحكومة المعتمدة هي النأي بالنفس؟!
نواقض العدالة في القضاء العسكري
لذلك، فإنّه لا مناص من متابعة المواجهة لإقرار مشروع وزير العدل أشرف ريفي في مجلس الوزراء، والتخلّص من وطأة قضاء عسكري أثبت عدم جدواه في مواجهة ما يُسمّى الإرهاب، وفي تحقيق العدالة والإنصاف، وذلك بالنظر إلى التسلسل الخاطئ في العملية الأمنية – القضائية القائمة، والمرتبطة بهذا القضاء:
فالاعتقال لا يزال سائدا وفق وثائق الاتصال، المخالفة لقرار السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء)، وهنا أساس باطل من أسس عمل القضاء العسكري.
أما ثاني نواقض العدالة في عمل المحكمة العسكرية، فهو الاعتماد في التحقيقات على التعذيب والإكراه في سجون وزارة الدفاع والريحانية وشبيهاتها، وهو أمر لم يعد قابلا للنقاش، ولم يعد المعنيون يتعبون أنفسهم ولو بالإعلان شكلا، عن نفي التعذيب في سجونهم.
أما الناقض الأهم، فهو عدم اختصاص «قضاة» المحكمة العسكرية في القانون، فهم ضباط من مجالات ومشارب مختلفة، لا تسمح لهم بتولي ملفات هي من أخطر الملفات وأدقها، وأكثر حاجة إلى التمسك بسلطة القانون وبروحه ومقاصده، والحاصل عمليا هو عكس ذلك، وما ملفات العملاء فايز كرم وميشال سماحة وأديب العلم..سوى شاهد على الانحراف الحاصل في مسار المحكمة.
أما خضوع المحكمة للضغوط السياسية فحدّث ولا حرج، وملف عمر بكري وتقلّبه بين دعم «حزب الله» وإطلاق سراحه الفوري بعد تدخّل موكله النائب نوار الساحلي، وبين قبوع بكري في السجن، بعد رفع الغطاء عنه من قبل الحزب.. شاهد على انخلاع أبواب العدالة، على يد قوة السلاح الطاغية.
مسؤولية وزير الدفاع
والقوى السياسية
من هنا يصبح السؤال عن موقف القوى السياسية ضروريا لغربلة المشهد وتحديد المسؤوليات.
من حيث المرجعية والاختصاص، لا يجب تغييب مسؤولية وزير الدفاع سمير مقبل حيال ما يجري في المحكمة العسكرية، لاعتبارات كثيرة، أهمها:
ــ إنّ المناقلات والتغييرات القيادية في القضاء العسكري تتم بقرار منه وبعلمه ومعرفته وإشرافه، وبالتالي، فإن مسار الخطوات التخفيفية كان يمر أمامه، فإما أنّه علم بها وتلك مصيبة، وإما أنه لم يعلم، فالمصيبة أعظم.
ــ إنّ وزير الدفاع معني بالتحرك لوقف الممارسات الماسة بحقوق الإنسان في سجون وزارة الدفاع والريحانية وغيرها، حيث تؤخذ التحقيقات الأولية وتباشر المحكمة العسكرية على أساسها أعمالها.
ــ وزير الدفاع معني بمعركة إنهاء المحاكم الاستثنائية وعدم السكوت أو الحياد في المواجهة الدائرة لإعادة تحديد نطاق عمل المحكمة العسكرية ودعم مشروع وزير العدل أشرف ريفي القاضي بإنشاء محاكم متخصّصة بالإرهاب والجرائم المالية وغيرها.. وحصر مهام القضاء العسكري بالعسكريين فقط.
وهذا الموقف يجب أنْ ينسحب على كتلة الرئيس ميشال سليمان الوزارية، بعيدا عن التوصيف الضيق والمحصور الذي أطلقته الوزير أليس شبطيني بشأن ملف ميشال سماحة، ربما في محاولة منها لتبرير أحكام سبق أن أصدرتها عندما كانت في موقعها القضائي.
لقد عبّرت قوى 14 آذار بمختلف اتجاهاتها والحزب التقدمي الاشتراكي، عن الموقف الواضح ضد استمرار القضاء العسكري في تغوّله على الحياة السياسية وفي ضرب معايير العدالة، كما اعلن ممثلو الأحزاب التي شاركت في اعتصامات الاحتجاج على ممارسات محكمة التمييز..
في المقابل، أعلن «حزب الله» عن تغطية قرار إخلاء سماحة، وهو بذلك قطع الطريق مسبقا على مساعي الحدّ من تسلط المحكمة العسكرية، ولا شك في أنّ المعركة لا تزال في أوّلها، وسط قيام تقاطع مصالح مؤسف بين الحزب والجيش حول الإبقاء على المحكمة، كان قد سبقه تقاطع آخر، تمثّل في توافقهما على رفض توقيع لبنان على معاهدة مناهضة التعذيب، والسبب واضح: ان التعذيب لا يزال معتمدا في مراكز الاحتجاز لدى الجيش، كما هو الحال في الريحانية ووزارة الدفاع، والحزب يمدّ خيوط نفوذه لضرب مناهضيه في المناطق الإسلامية عبر نجاحه في نقل تعريفه الخاص بالإرهاب وتحويله إلى قاعدة من قواعد عمل المحكمة العسكرية.
* إعلامي – رئيس هيئة السكينة الإسلامية.