معركة الرقّة في صدد الانتهاء، كما كان متوقّعاً بعد الموصل وقبل دير الزور وربما إدلب أيضاً، بحصيلة ثقيلة من الضحايا المدنيين. تتكرّر هذه النهاية المروّعة في كل مدينة انتزع تنظيم «داعش» السيطرة عليها لنحو عامين أو ثلاثة ثم راح يفقدها تباعاً. وبما أنه اتخذ من الدروع البشرية محوراً لاستراتيجيته الدفاعية، فإن مهاجميه بقيادة «التحالف الدولي» جعلوا التدمير المنهجي وقتل المدنيين وسيلتهم الحاسمة لكسر مقاومته.
هكذا فُرض وضع غير معقول، يقضي فيه الأبرياء في الذهاب وفي الإياب، ويدفع الى التساؤل: مَن المسؤول عن هذا الموت المجاني للمدنيين؟ أهما الجهتان معاً، وإنْ بمعايير مختلفة؟ أهو «داعش» وحده في كل الأحوال؟ أهي الجهات الأخرى التي مهّدت سمحت وحرّضت على ظهور «داعش» وبرّرته ليوفّر مسوّغاً «قانونياً – أخلاقياً» لتدمير المدن والبلدات، بحجة أنها بيئات حاضنة للإرهاب، ولا أحد يعلم ما الذي يتخلّق الآن تحت الدمار وركام الجثث وذلّ النزوح، أيكون «اعتدالاً» أم «وسطية». أما الذريعة القانونـ – دولية فهي أن التنظيم ارهابي وأنه استولى على مناطق فأخرجها عن سلطة الدولة المعترف بها دولياً وتنبغي إعادتها اليها، أي الى «دولة» العراق التي ورثتها الهيمنة الإيرانية لتديرها مع «دولة» أو «لأدولة» بشار الأسد كنموذج «أسوأ من نظام صدّام حسين» كما بات يقال، فيما يجد المجتمع الدولي نفسه معذوراً إذا قال أن النموذج البعثي – الملاليّ يبقى أهون شرّاً من نموذج «داعش»، أي أن السوريين كما العراقيين لا يستحقون ما هو أفضل.
بعد الرقّة، الى أين؟ دير الزور أم إدلب؟ السباق يرجّح الأولى لأن قوات بشار الأسد وميليشيات إيران تقترب بسرعة متوغلةً أكثر فأكثر في أطراف «الشامية»، أو دير الزور جنوب الفرات، ومستغلّةً انشغال «التحالف الدولي» والقوات الكردية بالمرحلة الأخيرة من العمليات في الرقّة. كانت إدلب ولا تزال هدفاً للثنائي الأسدي- الإيراني، إلا أن أولويتها تراجعت قليلاً في الآونة الأخيرة لمصلحة تأمين المناطق الشرقية، سواء لأهمية دير الزور بمواردها أو لأن التوسّع شرقاً يلبي طموح الأسد بتعزيز «سورية المفيدة» ويقرّب الإيرانيين من وراثة حدود «داعش» المفتوحة/ الملغاة بين سورية والعراق. فهذا الإرث أهم بالنسبة الى طهران، إذ تعتبره عاملاً حاسماً في «الانتصار» على الولايات المتحدة. أما إدلب فستسقط عاجلاً أم آجلاً، وسيتولّى ذلك الأميركيون أو الروس، كل على طريقته، وبالطبع تستبعد طهران الخيار الأميركي بالتعاون مع الأكراد، وفي ضوء تقاربها المستجدّ مع أنقرة تفضّل الخيار الروسي بالتعاون مع الأتراك.
تصرّفت إيران منذ أواخر العام 2001 على أنها الدولة «الوصيّة» على تنظيم «القاعدة»، وكان معروفاً منذ 2013 أنها ونظام الأسد قدّم تسهيلات لـ «داعش» وتأمين انتشاره في سورية. استقبلت طهران فلول «القاعدة» الهاربة من أفغانستان والعديد من قادته، وورثت «طالبان» في رعاية التنظيم وأنشطته، وهي الآن مع روسيا تدعمان هذه الحركة تحدّياً للنفوذ الأميركي في أفغانستان. يُذكر أن زعيم التنظيم أسامة بن لادن هادن إيران، وكذلك خلفه أيمن الظواهري، فالأول تضمنت رسائله توصيـة لـ لقاعديين» بعدم مهاجمة إيران، والثاني كان له توبيخ مشهور لأبي مصعب الزرقاوي بعدما هاجم الشيعة في العراق. والأكيد أن الظواهري لم يستطع معالجة تمرّد «داعــش» عليه لكنه أبقى الخيط موصولاً مع «جبهة النصرة» (أو «جبهة فتح الشام» ثم «هيئة تحرير الشام» لاحقاً) وأبدى تفهّماً لتغييرها اسمها وحتى لفكّ ارتباطها بالتنظيم. وروى صحافي التقى «أبو محـــمد الجولاني» ضمن مجموعة أجرت معه مقابلة متلفزة أن «الجولاني» سئل لماذا لا تهاجم «النصرة» إيران، فأجاب أن هدفه الأول هو النــــظام، لكنه أضاف: «علينا أن نراعي جماعتنا (القاعدة) فهم لا يزالون يدعمــونـــنا ولا نريد أن نحرجهم». وعندما حصل الصحافيون على قرص المقابلة المعدّة للبث لم يجدوا ذلك السؤال ولا الإجابة عنه، فمعاونو «الجــــولاني» تــــولّوا محـوهما بـ«المونتاج».
ليس هناك سيناريو واحد للتعامل مع حال إدلب، فالوضع فيها غير مقبول، أولاً من جانب الإدلبيين ومواطنيهم النازحين، وتالياً من جانب القوى الدولية والإقليمية التي تدير الأزمة السورية متوافقة أو متنافرة. لا شك في أن أكثر ما يرتسم في الأفق هو مصير مشابه للموصل والرقّة خصوصاً أن العداء الحاد لـ«النصرة» يجمع روسيا والولايات المتحدة، الأولى لأن هذ الجبهة استقطبت أعداداً كبيرة من مواطني جمهوريات وسط آسيا التابعة لها، والثانية لأنها في حرب لم تتوقف ضد «القاعدة»، بالتالي فإنهما لا تتصوّران حلّاً يبقي هؤلاء «القاعديين» في الخدمة أو يجعلهم مقبولين بأي صيغة. لا شك أيضاً في أن احتمالات تجنب هذا المآل ممكنة كذلك لأن «النصرة» واقعياً، على ما يقول المتفائلون، لا تشبه «داعش» على رغم أيديولوجيتها الدينية، ولا تشبه «القاعدة» كونها لم تستهدف المصالح الغربية ولم تقم بعمليات خارج سورية – حتى الآن، بل حصرت نشاطها في الصراع الداخلي متقاربة أقل أو أكثر مع فصائل معينة في المعارضة. لكنها و«داعش» متشابهان في توسّعهما على حساب «الجيش السوري الحرّ».
الأسهل هو السيناريو الكارثي، ربما لأنه يناسب القوى الخارجية ولأن عناصر تبريره متوافرة، ولأن منطقي الحرب وإنهائها يستسهلان العمليات الجراحية حتى لو كانت مكلفة، فعدا الضحايا المدنيين والدمار سيكون على الجوار، أي تركيا، أن تتوقع ما يقارب المليون ونصف المليون من النازحين الجدد. ومع أن ثلاثي آستانة (روسيا وتركيا وإيران) أدرج إدلب في خطة «مناطق خفض التصعيد» إلا أن الترتيب أُقرّ قبل أن تنجز «النصرة» سيطرتها على المحافظة. صحيح أن موسكو وأنقرة تواصلان تطبيق «خفض التصعيد» محافظة إدلب، بل إن سيرغي لافروف أعلن أن الخطة ستشملها قريباً، لكن هناك شروطاً أهمها قبول الحل السياسي، ما لم تتعامل «النصرة» معه سابقاً بل رفضته.
أما لماذا السيناريو السلمي هو الأصعب، فلأنه يتوقف على تغيير جذري في سلوك «النصرة». كان اتفاق آستانة على «مناطق خفض التصعيد»، مطــلع أيار (مايو) الماضي، توقّع ضمناً حصول صراعات ضمنية بين فصائل المــعارضة، وافتــرض هيــمــنة المعتدلين المستعدّين لقبول الحل السياسي، لذلك حسمت «النصرة» الأمر بضرب حركة «أحرار الشام» وطردها من مناطق سيطرتها لاستباق تحركها ضدّها. بعدئذ أطلق المبعوث الأميركي الخاص الى سورية مايكل راتني تهديداً واضحاً بأن هيمنة «النصرة» على إدلب «ستجعل من الصعب على الولايات المتحدة إقناع الأطراف الدولية بعدم اتخاذ الإجراءات العسكرية المطلوبة» لمواجهتها. ويعني ذلك عملياً أن حكم «النصرة» إدلب ربما يحوّلها الى «امارة»، ما يستدعي معاملتها إسوة بمناطق «داعش» فتُقطع عنها المساعدات الانسانية وتصبح تلقائياً تحت حصار مرفق بعمليات تستهدف مواقع «النصرة» ومرافقها ومستودعاتها، أي أنها ستدخل نفق الحل العسكري.
لكن المطلوب لإثبات «عدم الهيمنة» كثير جداً، ويصعب على «النصرة» تنفيذه مع افتراض رضوخها له. بين أفكار كثيرة طُرحت اقترح الدكتور أحمد طعمة، وهو الرئيس السابق للحكومة الموقتة التابعة للائتلاف المعارض، أن تتواصل الشخصيات الإسلامية والاجتماعية مع «النصرة» لتسهيل انتخاب إدارة مدنية لإدلب من دون أن تتدخّل، ولإلغاء بيانات متشدّدة أصدرتها خلال مواجهتها مع «أحرار الشام» وتركت انطباعاً بأنها لا تزال مرتبطة بـ «القاعدة»، ولقطع الصلات نهائياً مع هذا التنظيم وفكّ بيعتها لزعيمه، والأهم أن تجري انسحاباً كاملاً من المدن والبلدات لتتمركز خارجها بعد إعلانها مناطق خالية من السلاح… قد تبدو هذه الاقتراحات، من خارج إدلب، مبالغة أو مستحيلة، لكن متواضعة بالمقارنة مع مطالب الناس في الداخل، فهم يرفضون مصيراً مشابهاً للموصل والرقّة. اذاً فالخيار عند «النصرة»، بين التمسّك بسيطرة أحرزتها بقوّتها والتسبب بكارثة لإدلب وسكانها ونازحيها، وبين قبول الشروط وتقليص نفوذها لإنقاذ إدلب. قد يؤدي الخيار الثاني الى استبعاد السيناريو العسكري، لكن أياً من الخيارين لا يضمن لـ «النصرة» وجودها في نهاية المطاف.