نستسهل في لبنان كثيراً استعمال مصطلحات الثورة، لا بل نبتذلها ابتذالاً: فالحرب الأهلية في ١٩٥٨ كانت – عند البعض فقط – ثورة ضد حكم كميل شمعون. كان يقال إن الرجعي، صائب سلام، قادَ ثورة في بيروت: صائب سلام وثورة؟ وسلام هذا، من عتاة الطاقم السياسي الرجعي الفاسد في حقبة ما قبل الحرب، استعمل مصطلحات الثورة مرّة أخرى عندما دعا في أوائل السبعينيّات إلى «ثورة من فوق»، وهو كان يقصد أن على الزعماء الموارنة الرجعيّين مشاركة السلطة مع أمثاله من الزعماء المسلمين الرجعيّين وإلا حدثت «ثورة من تحت» – أي الثورة الحقيقيّة التي كان هو وبيار الجميّل يخافون منها – وتطيح بكل الطبقة السياسيّة. وعندما دخلنا فترة ثوريّة حقيقيّة (تتمتّع بوجود فلسطيني ثوري حليف) في عام ١٩٧٥ – أي عندما تشكّلت ظروف ثورة لأوّل مرّة في تاريخ لبنان – لم يكن مصطلح الثورة دارجاً ربما تهيّباً، وكان يُستعاض عنه بالإشارة إلى حرب ضد الانعزاليّين ورعاتهم في تل أبيب. لكن في عهد أمين الجميّل، تشكّلت ظروف ثوريّة أطاحت بحكم الجميّل في بيروت الغربيّة بعد أن كان قد فرض حكماً بوليسيّاً جائراً، وأطاحت مجموعة من القوى المسلّحة باتفاقيّة ١٧ أيّار وقضت على مرحلة إسرائيليّة في لبنان. لكن الثورة تغيّر في طبيعة السيطرة الاقتصاديّة والسياسيّة: ما جرى في مصر بعد «الثورة» كان ثورة بحقّ.
ما يحدثُ في لبنان اليوم ليس ثورة على أهميّته التاريخيّة. وما حدث في عام ٢٠١٥ لم يكن حتماً ثورة. في عام ٢٠١٥ جرت تحرّكات شعبيّة تتعلّق بالبيئة، وكان واضحاً يومها أن القوى التي بادرت إلى الدعوة كانت لا تريد التصعيد ضد السلطة، وأرادت حصر المطالب بأجندة بيئيّة محدّدة لا تربط التحسين البيئي بالتغيير الاقتصادي والسياسي الجذري. وانتهى ما أُسميَ بـ«الحراك» (كأن كلمة تحرّك أو حركة لا تفي بالغرض) من دون تحقيق حتى استقالة محمد المشنوق – أضعف وزير في تاريخ هذه الجمهوريّة. لكن المرحلة الآن باتت مختلفة: عبّرت حركات الاحتجاج المنتشرة في كل المناطق اللبنانيّة عن حالة غضب عارمة توحّد اللبنانيّين، وباتوا مصرّين على إسقاط كل الزعامات السياسيّة. وانتشار الاحتجاجات عفويّاً من دون قيادة مركزيّة في كل أنحاء لبنان سابقة منذ تاريخ الحرب الأهليّة (النائب حسن فضل الله أفتى بدور لـ «القوّات اللبنانيّة»، لكن هل لـ«القوّات اللبنانيّة» دور في دائرة فضل الله الانتخابيّة؟ هل «القوّات» هم الذين اعتدوا بالعصي على متظاهري النبطيّة؟ وهل «القوّات» مسؤولون عن هتاف الجنوبيّين ضد فساد قيادة «أمل»؟). حركة ١٤ آذار كانت حركة سلطويّة طائفيّة مدعومة من الغرب لتثبيت العناصر الأكثر رجعيّة في السلطة السياسيّة، وهي ثورة مضادة مرعيّة من قبل بوش – أو بولتون الأدنى مرتبة. كما أن تحرّكات ١٤ آذار كانت منظّمة مركزيّاً (من المركز المحلّي والإقليمي والعالمي) وطائفيّاً. حركة ١٤ آذار لا تشبه الاحتجاجات اليوم، كما أن تحرّك ٢٠١٥ لا يشبه تحرّكات اليوم.
ما حدث في الأسبوع الماضي كان انفجاراً مبيّتاً مكبوتاً منذ عام ١٩٩٢ – والانفجار تأخّر لأن الحريري وورثته عرفوا كيف ومتى يلوذون بالطائفية والمذهبيّة لإنقاذ فساد الطبقة الحاكمة من الغضبة الشعبيّة. هذه فاتورة تسلّمها الشعب اللبناني عن حسابات رفيق الحريري الماليّة (لا أفهم كيف يتلقّى جبران باسيل من الشتائم أكثر من رفيق حريري، المهندس الحقيقي للكارثة الاقتصاديّة في لبنان). كانت هناك انتقادات كثيرة مبكراً للحريري بسبب انحيازه المفضوح ضد الطبقات الشعبيّة وضد دولة الرعاية الاجتماعية، وتشكّلت في التسعينيّات حركة معارضة لا طائفيّة ضدّه داخل الحركة العمّاليّة. الحركة العمّاليّة – قبل تدجينها من الحريري ومستشاره لشؤون ضرب العمّال، محمد كشلي (اليساري السابق) – كانت سبّاقة ورائدة في التنبيه إلى مخاطر الحريريّة. لكن الحريري عرف كيف يتعامل معها: استعان بيد النظام السوري الضاربة لقمعها، وفرض النظام السوري وزراء عمل من حلفائه: (حزب البعث أو الحزب السوري القومي الاجتماعي). ونجح الحريري في نسف الحركة العمّاليّة وأصبح نبيه برّي وصيّاً عليها يعيّن قياديّاً تابعاً له فيها. وبضرب الحركة العمّاليّة انتهت آخر فرصة لبلورة معارضة ضد السياسات الحريرية القاتلة. وهو كان يشتري معارضين له، من اليسار واليمين والوسط، حتى أنه اشترى نوّاباً وحلفاء لسليم الحص. والقوانين الانتخابيّة والإنفاق الانتخابي المقترن بالتحريض الطائفي والمذهبي من قِبل الحريري فعل فعله في القضاء على أي معارضة له، وبات الزعيم الأوحد غير المنافَس في بيروت، ثم في لبنان – بعد موته.
هناك قوى غير ثوريّة مرتبطة بمصالح السلطة وهي لا تريد أن تسمح للاحتجاج أن يذهب بعيداً في مطالبه
لكن الشعارات الحالية في الانتفاضة الجارية بالكاد تتطرّق إلى رفيق الحريري خصوصاً وأن رموزه ليست بعيدة عن أماكن الاحتجاج في مختلف المناطق في لبنان. ليست الأزمة الاقتصادية بنت ساعتها بل هي نتيجة كانت حتميّة لسوء إدارة رفيق الحريري للاقتصاد اللبناني. وهذه الإدارة لم تكن محليّة فقط.
السياسة الخارجيّة. قد يكون إهمال السياسة الخارجيّة من أكبر أخطاء الانتفاضات العربيّة. السياسة الخارجيّة لا تعني فقط ربط مواضيع التغيير الداخلي وإسقاط النظام بضرورة تغيير السياسة الخارجيّة، بل تعني أيضاً أن إمكانيّة تغيير النظام من دون الثورة على السياسة الخارجيّة للبلد ستفشل حكماً. درس مصر كان بليغاً: حكم الإخوان افترض أنه لو تنازل عن السياسة الخارجيّة لوكلاء أميركا وإسرائيل في المخابرات والجيش المصري، لسهلَ عليهم الحكم. لو أن محمد مرسي أصرَّ على إقصاء كل القيادة العسكريّة والمخابراتيّة السابقة بناء على تفويض من الشرعية الانتخابيّة، ولو أنه غيّر من توجّهات السياسة الخارجيّة لكان لا يزال في الحكم – لكن الإخوان فضلّوا الكرسي على خطابهم التاريخي (الكاذب) عن الجهاد ضد إسرائيل. والسياسة الخارجيّة تفرز بين الفصائل في حركة التغيير: المظاهرة التي استهدفت سفارة العدوّ في القاهرة لم تجذب إلا اليساريّين المتطرّفين والناصريّين ونأى الإخوان والليبراليّون اليمينيّون بأنفسهم عنها.
خذوا الحالة اللبنانيّة. ليس ربط الشعارات مسألة تتعلّق بمقاومة إسرائيل فقط (ما معنى التغيير إذا زال ردع العدوّ – وللمرّة الأولى من عام ١٩٤٨ – وتسنّى لإسرائيل مرّة أخرى تهديد الكيان اللبناني وضرب سكّانه بصورة منتظمة؟) بل هي مرتبطة بوقف الكارثة الاقتصاديّة. عندما قرأ سعد الحريري بيان إصلاحه قبل أيّام، والذي قال فيه إنه مزهو بتلاوة أفكاره هو عن الإصلاح، كان يكذب لأنه لم يكن يقرأ إلا مطالب حرفيّة من البنك الدولي والمؤسّسات والحكومات الغربيّة. إن وصفات رفيق الحريري الاقتصاديّة كانت وصفات البنك الدولي، والذي كان رئيسه من أتباعه. والمطالبة بالتغيير من دون شعارات تغيير السياسة الخارجيّة للبنان عبثيّة. كيف بقي – وكيف يبقى بالرغم من كل شيء – رياض سلامة في موقعه في المصرف المركزي كل هذه العقود (لم يكن ذلك بسبب نيله جوائز وهميّة من مجلّات يموّلها هو على أنه أحسن حاكم مصرف مركزي، كأن هناك مباريات، مثل مباريات ملكة جمال البطّيخ، لحكام المصارف). وسلامة، الذي استقدمه الحريري من «ميريل لينش» (حيث كان له حساب خاص فيه) استمرّ في الحكم بالرغم من معارضة السنيورة له، ومعارضة ميشال عون له. هو، مثل معظم حكّام المصارف المركزيّة في العالم العربي، وكيل محلّي لوزارة الخزانة الأميركيّة إلى درجة أنه ابتدع – هو والمصارف اللبنانيّة – كلمة «امتثال» (في ترجمة لكلمة إنكليزيّة) للإشارة إلى مطواعيّتهم المطلقة لوكلاء اللوبي الصهيوني في وزارة الخزانة الأميركيّة، بالنسبة إلى تنفيذ الأوامر في معاقبة مواطنين لبنانيّين تصنّفهم حكومة أجنبيّة على أنهم إرهابيّون. هذه كأن تفرض الحكومة اللبنانيّة ضغوطاً على مصارف أميركية لمنع التعامل مع مواطنين أميركيّين بحجّة أنهم صهاينة. والمطالبة بإقصاء رياض سلامة ومحاكمته غير ممكنة من دون تغيير جذري في السياسة الخارجيّة للبنان التي لا تتحدّى الحكومة الأميركيّة، وعلى الإهانات التي تكيلها الحكومة الأميركية للشعب اللبناني. ماذا يعني أن يزور وزير خارجية أميركي أو مساعده ويلقى كلمة يصف فيها أكبر حزب لبناني بأنه إرهابي؟ والمصارف اللبنانيّة مرتبطة هي أيضاً بالمصارف الأميركية ووزارة الخزانة. ليس للبناني سيادة على مصارفه كما أنه ليس له سيادة على أرضه وأجوائه بسبب الخروقات الإسرائيليّة. أي إن مكافحة الفساد هي معركة من أجل السيادة، وكيف تنجح هذا المعركة من دون عنصر سياسة خارجيّة ودفاع (أو بالأحرى مقاومة)؟
شعار «إسقاط النظام» لا معنى له في بلد مثل لبنان. هذا شعار يصلح لبلاد لا انتخابات فيها، أي في كل الدول العربيّة حتى عام ٢٠١١. لكن في لبنان النظام قائم بصرف النظر عن العهد، فيما العهد هو النظام في الدول الأخرى. المطالبة بإسقاط النظام عند المحتجّين والمحتجّات هي مطالبة بإسقاط العهد. لكن التغيير الجذري يكون في إسقاط نظام الحكم (السياسي والاقتصادي) برمّته لأن شعار الديموقراطيّة الذي يُرفع في الدول العربيّة يعني إجراء انتخابات في بلاد لم تجرِ فيها انتخابات حرة من قبل، مثل تونس أو مصر قبل السيسي. في لبنان، شعار الانتخابات من شأنه الإتيان بنفس الطبقة السياسيّة، لكن بشراسة أكبر. أي أن التغيير في لبنان يكون في التمنّع عن المطالبة بالديموقراطيّة والإصرار على حكم تغييري (انتقالي في الحد الأدنى) لإحداث التغيير. إن تحقيق ثورة ديموقراطيّة في لبنان يمرّ عبر محاربة الديموقراطيّة الحاليّة، وبوسائل غير اقتراعيّة. أي أن تحقيق الديموقراطيّة الحقّة يكون بوسائل لا ديموقراطيّة أو لا يكون. إن قوى التغيير لا تستطيع في أفضل شروط للانتخابات أن تنافس وتفوز ضد قوى السلطة. المبالغة في تقريظ الديموقراطيّة يخفي حقيقة سيطرة، أو تقرير، السلطة في الحكم على نتائج الانتخابات. لماذا لا يزال حزبان فقط يحتكران التمثيل السياسي في أميركا؟ لأن النظام الاقتراعي الأميركي مفصّل من قبل الحزبيْن لمصلحتهما ولإقصاء أي حزب ثالث. والتدخّل الأجنبي في لبنان يجعل من السفارات الغربيّة والعربيّة ناخباً أسياسيّاً فيه، وهي تستفيد من قوانين السريّة المصرفيّة، التي أتت للتستر على عمليّات تحويل المبالغ من قِبل مخابرات أجنبيّة وللتغطية على فساد الطبقة الحاكمة وتهريب الأموال. قد تستطيع حركة «مواطنون ومواطنات» إيصال ممثل أو اثنين عنها إلى المجلس النيابي على مدى عشرين سنة، وهذا لن يُحدث التغيير. وصل أقل من نصف دزيّنة نواب تقدميّين اشتراكيّين إلى مجلس ١٩٧٢ وكان دورهم ضعيفاً نظراً للسيطرة الرجعيّة من كل الطوائف على المجلس النيابي. يمكن للتغيير أن يأتي في لحظة الغضب هذه لو أصر المعتصمون والمعتصمات – هذا لو اعتصموا خصوصاً في مبانٍ حكوميّة وليس في ساحات فقط –على فرض تغيير دستوري عاجل ليزيل الطائفيّة من النظام بالكامل مثلاً. والنوّاب مطواعون: في عام ١٩٨٣ اقترع أكثرية في المجلس النيابي اللبناني لصالح اتفاقيّة ١٧ أيّار، ثم صوتوا بعد سنة واحدة لإلغاء تلك الاتفاقيّة، لأن النوّاب يتأقلمون بسرعة مع المزاج الشعبي ويخافون منه (ها قد اعترفت القاضية غادة عون أن القضاة يتأثّرون بالمزاج الشعبي). وهذه لحظة خوف نادرة للطبقة الحاكمة: لقد مرّت أيام من دون سماع صوت عدد كبير من الساسة الذين يصرّحون بصورة يوميّة. ويمكن استغلال الخوف لفرض تعديلات دستوريّة ولفرض رئيس حكومة مثل أسامة سعد أو حتى شربل نحّاس (هذه لحظة للتخلّص من الأعراف الطائفيّة الباليّة). إن تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري، حتى لو تمثل فيها جورج إبراهيم عبد الله، لن يُحدث ثورة في لبنان، أو تغييراً جذرياً. الحريري سفير لقوى طبقيّة داخليّة ولقوى خارجيّة رجعيّة تصرّ على فرض نظام اقتصادي ريعي استغلالي، وتصرّ أيضاً على محاربة الإنفاق الحكومي، وتصرّ أيضاً على معاداة المقاومة. أما الفساد فهو من ضرورات الرعاية الغربيّة للبنان لأنها تسمح بدعم وتمويل من تريد ومحاربة من تشاء. نحن نعلم مَن تحارب أميركا ماليّاً في لبنان، لكن نحتاج لأن نعرف أيضاً مَن تكافئ أميركا ماليّاً في لبنان. والمكاشفة والمحاسبة والشفافية تُبطل عمل الدول الخليجيّة والغربيّة في لبنان. أي حتى الفساد، يحتاج إلى ثورة على سياسة لبنان الخارجيّة لمحاربته بفعاليّة.
السلطة الحاكمة في حالة ضعف غير مسبوقة، والنادر فيها أنها تصيب زعماء من كل الطوائف
هناك فرص تسنح نادراً بإسقاط نظام أو إحداث تغيير، حتى لا نتحدّث عن ثورة لأنّ لها معاني كبيرة لا قدرة – أو رغبة – لقوى الاحتجاج في بيروت، على تحقيقها. فصلَ بين عام ١٩٦٨، عندما أبلت المقاومة الفلسطينيّة بلاء حسناً في معركة الكرامة، وبين ١٩٧٠ سنة مجازر أيلول الأسود، سنتان فقط. والمقاومة كانت تستطيع أن تتسلّم السلطة في ١٩٦٨ و١٩٦٩ لكنها لم تفعل. وكنتُ أقرأ وأنا صبي قادة للمقاومة يتبجّحون حول أنه كان باستطاعتهم تسلّم السلطة لكنهم تعفّفوا. وكنت أغتاظ وأقول في سرّي: وكيف يبرّر هؤلاء التمنّع الإرادي عن تسلم السلطة مع أن ثمن هذا التمنّع كان باهظاً ويُقاس بأرواح آلاف الفلسطينيّين؟ وفي عام ١٩٦٩ كانت القوى التقدميّة في لبنان في وضع يساعدها على إحداث تغيير في السلطة في لبنان، لكنها وقعت في مهادنات وتنازلات كانت تفرضها قيادة كمال جنبلاط على تلك القوى لأنه كان من صف الساسة التقليديّين في الوقت الذي كان يقود حركة مناهضة للسلطة (هو في عام ١٩٦٩ وقف كوزير داخليّة ضد التحرّك الشعبي وتظاهر ابنه وليد ضد مشيئة والده يومها). وفي عام ١٩٧٣ تكرّرت التجربة وتبيّن أن القوى الانعزاليّة كانت تعدّ العدّة لشنّ حرب شاملة ضد قوى المقاومة الفلسطينيّة وأعوانها من اللبنانيّين، لكن الحركة الوطنيّة لم ترد على العدوان بل انتظرت مبادرة سلميّة من السلطة، التي كانت تعطي كلّ ما في خزائن الجيش إلى الميليشيات اليمينيّة، التي كانت تتنعّم أيضاً بتسليح ومال من إسرائيل ودول الغرب والأردن والسعوديّة. وعندما اندلعت الحرب، لم تكن الحركة الوطنيّة مستعدّة أو متحضّرة، ولولا مساندة المقاومة الفلسطينيّة الباسلة لكان حكم الكتائب قد امتدّ في كل أرجاء لبنان: كل ذلك لأن محسن إبراهيم وجورج حاوي وكمال جنبلاط رفضوا لسنوات خيار التسلح والاستعداد.
هذه لحظة نادرة. السلطة الحاكمة في حالة ضعف غير مسبوقة، والنادر فيها أنها تصيب زعماء من كل الطوائف فلا يستطيع السنيورة أن يتهم الشيعة بالتحريض ضدّه وأن يختبئ في عباءة المفتي. الكل مُصاب بالجذام والكلّ مرتبك، والارتباك سمة غير مألوفة عند هؤلاء. لكل هؤلاء رعاتهم في الخارج، لكن لا يحميهم ذلك من غضب الشعب إذا امتدّ وانتشر وتصّلب.
هذه حالة حبلى بالثورة (هي ليست ثورة لكن تحمل إمكانيّة الثورة إذا أراد المحتجّون والمحتجّات ذلك) لكن هناك قوى غير ثوريّة مرتبطة بمصالح السلطة وهي لا تريد أن تسمح للاحتجاج أن يذهب بعيداً في مطالبه. عندما تنضم وجوه من السلطة إلى التحرك، فهي تفعل ذلك لإنقاذ السلطة وليس لإنجاح التحرّك. والتركيز على جبران باسيل – على سوئه – من بوادر استغلال سياسي من قبل أعدائه لإنقاذ السلطة ولمنع الغضب الشعبي من أن ينتشر وأن يتعمّم. باسيل مسؤول أكثر من نبيه برّي وفؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي ورياض سلامة وهيئة المصارف؟ هل جبران باسيل هو المسؤول عن تركيبة ما بعد الطائف أكثر من الهراوي – بري – الحريري؟ باسيل استفزّ كثيرين وكثيرات بغروره وعنصريّته ونزقه لكن ليس هو السلطة وحيداً.
يقف «حزب الله» في موقف قد يتقرّر فيه مصيره السياسي وقد يؤثّر كثيراً – للأسف – على نسبة تأييد المقاومة في لبنان. لا يجب أن تكون نسبة تأييد المقاومة ضد إسرائيل – وهي حق مطلق لكلّ الشعوب خصوصاً في مواجهة عدوّ غاشم ظالم ومعتدٍ – مرتبطة بالحالة السياسيّة لحزب الله لكنها كذلك، شئنا أم أبينا. وخطاب نصر الله بعد اندلاع الانتفاضة لم يكن موفّقاً عندما أخبر المتظاهرين ما يمكن وما لا يمكن تحقيقه. هو فصلَ بأنه لا يمكن إسقاط العهد. كيف فصلَ في ذلك؟ لا يستطيع أي زعيم أو قائد الفصل فيما تقرّره الشعوب في الانتخابات أو في الشوارع. وهناك أعداء متربّصون بحزب الله ويريدون ضمان تحقيق لا يجزم بعدم تحقيقه (كما فعلوا في «نهر البارد»، عندما وصف اقتحام المخيّم بـ«الخط الأحمر» – وكان على حق).
من المبكر الحكم على نتائج التحرّك، لكن معرفة التاريخ اللبناني المعاصر ومعرفة ارتباط النظام اللبناني بالخارج الراعي يحتّم التحفّظ في الانطلاق في الحماس «للثورة»، خصوصاً عندما يصدر كلام الثورة عن أحزاب وشخصيّات وأفراد موقعها الطبيعي هو في معاداة الثورة. ليست ثورة إذا كان دعاتها بيار الضاهر وتحسين خيّاط وأولاد المرّ (المتنازعون) وسامي الجميّل ووزراء القوّات. وليست ثورة إذا سيطرت على قيادتها تيارات في المجتمع المدني تضع قدماً لها في السلطة وقدماً خارجها، متأملة الانخراط في السلطة. والطبقة الحاكمة لا تمانع القمع، لكن القمع في لبنان يحول دون تطبيقه موانع طائفيّة، وقائد الجيش ليس خارج الطوائف، وعليه فإنّ ردة الفعل لمحاولة القمع ستكون قويّة. هذا لا يبعد شبح القمع عن التحرّك لأن لكل الزعماء أدوات قمع خاصّة بهم: لجنبلاط زعران في عاليه كما لبرّي زعران في النبطيّة، وهؤلاء الزعران مرتبطون بشبكة مصالح تتأثّر بغياب الزعيم. وموقف حزب الله، خصوصاً في الجنوب وفي بيروت أيضاً، سيكون حاسماً في تقرير مسار الاحتجاج ومسار القمع. الحزب وقف ضد القمع في بيروت لكنه سمح به، أو شارك فيه بالأحرى، في النبطيّة.
الزعماء في لبنان لا يريدون سقوط النظام، دول الغرب («المجتمع الدولي» في الخطاب اللبناني المرائي) لا تريد سقوط النظام. أما النظام السعودي فهو يريد تأديب سعد الحريري، لا بل طرده من السلطة، على أن يكون ذلك مترافقاً مع تأجيح حملة شعبيّة ضد «حزب الله» – ليس بسبب تحالفه مع برّي بل بسبب مقاومته لإسرائيل، حليفة آل سعود وأنظمة الخليج. وإعلام «إل.بي.سي» و«الجديد» و«إم.تي.في» يبالغ في توصيف الاحتجاج لأنه لا يريد «الثورة»، ويريد أن يقتنع المحتجّون والمحتجّات بالقليل. إعلام أصحاب المليارات المرتبط بطغاة الخليج يعلم أن «الثورة» ستستهدفه. يمكن مقابل ذلك وضع دستور ثوري انتقالي وفرضه من قبل حكومة تتمتّع بصلاحيّات استثنائيّة ثوريّة. لكن هذا يتطلّب اقتحام الـ«باستيل»، وحتى الساعة لم تنجح انتفاضة عربيّة واحدة في اقتحام الـ«باستيل». وعندما اقتحموا الـ«باستيل» في ١٧٩٨ سأل لويس السادس عشر: هل هذا تمرّد؟ فقيل له: لا، هذه ثورة. دقّوا جدران الـ«باستيل»، دقّوا جدران الـ«باستيل». ماذا تنتظرون وتنتظرن؟
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)
من ملف : لبنان ينقسم