هناك من يؤمن بالدولة العميقة في لبنان. لولا الدولة العميقة، لما بقي الوطن الصغير حيّا يرزق إلى الآن على الرغم من كلّ ما تعرّض له منذ العام تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم. يعني هذا الإتفاق، الذي أُجبر لبنان على توقيعه، تخلي الدولة اللبنانية عن سيادتها على جزء من اراضيها. لا نزال إلى اليوم نعيش تداعيات اتفاق القاهرة بعدما ورثت ميليشيا «حزب الله» المسلحين الفلسطينيين وطرحت شعار «الشعب والجيش والمقاومة» بغية تغطية وضع اليد الإيرانية على قسم من لبنان وكي تتمكن ايران من القول عبر غير مسؤول فيها انّها صارت دولة مطلة على البحر المتوسط وعلى تماس مع اسرائيل.
لم يمت لبنان. لم تمت الدولة العميقة التي أخرجت، بسبب إيمان اللبنانيين بها، القوات السورية من الأراضي اللبنانية في العام . نعم، لم يمت لبنان على الرغم من أنّه يمكن بسهولة الحديث عن دويلة لبنان ودولة «حزب الله» التي يشير وجودها إلى رغبة ايران في وضع البلد تحت وصايتها، أي ملء الفراغ الناجم عن انكفاء الوجود العسكري والأمني السوري.
ما يؤكّد وجود الدولة العميقة في لبنان سيطرة قوات الأمن على المبنى ب في سجن رومية. بقي هذا المبنى لسنوات طويلة عصيّا على الدولة اللبنانية التي اراد رفيق الحريري اعادة الحياة إلى مؤسساتها. إستشهد رفيق الحريري لأنّه كان يحمل هذا الإيمان ولأنّه كان مهووسا بلبنان وبقدرة اللبنانيين على الإنجاز في كلّ الميادين.
لم يتخل وزير الداخلية نهاد المشنوق في أي وقت عن ايمانه بالدولة العميقة على الرغم من كلّ الصعوبات التي تعترض عملية اعادة بناء مؤسسات الدولة اللبنانية. اكتشف منذ اليوم الأوّل لتوليه مسؤولياته في حكومة الرئيس تمام سلام أن في الإمكان البناء انطلاقا من وزارة الداخلية والأجهزة التابعة لها. وجد الوزارة في وضع جيّد نسبيا، لا لشيء، لأنه لم تنخرها السوسة الحزبية ولم تخترقها الميليشيات المذهبية. لذلك، استطاع أن يقوم بما يمليه عليه ضميره، أي اعادة المبنى ب إلى وضعه الطبيعي، معتمدا على عناصر قوى الأمن، وعلى رأسها عناصر شعبة المعلومات التي حصلت على مؤازرة من الجيش اللبناني.
لا وجود لأسرار من أيّ نوع كان. كلّ ما في الأمر أن الأجهزة اللبنانية قادرة على تنفيذ المطلوب منها خدمة للدولة وللمواطن اللبناني متى عملت بعيدا عن الأحزاب والميليشيات المذهبية ذات الولاءات المعروفة جدا، بل المعروفة أكثر من اللزوم.
تحرير المبنى ب في سجن رومية، وهو مبنى كانت فيه غرفة عمليات للمتطرفين الذين نفذوا عملية ارهابية في بعل محسن، يعتبر أفضل دليل على أن عين رفيق الحريري لا تزال ساهرة على لبنان.
ظهر في ختام المطاف أنّه لا يزال هناك لبنانيون، من طينة نهاد المشنوق، يؤمنون بلبنان واللبنانيين ولا تزال هناك مؤسسات لبنانية لا ترى سوى مصلحة لبنان واللبنانيين. الأمل الآن في تطوير التجربة التي بدأت بالإنتهاء من تمرد المبنى ب وتأكيد أن هناك مؤسسات ما زالت تعمل بعيدا عن الحزبية والمذهبية.
كلّ ما فعله نهاد المشنوق، الذي أصرّ على أن الإنجاز النظيف ملك عناصر قوى الأمن الداخلي ومن بينها شعبة المعلومات، يتمثّل في الإعتماد على شبان يخدمون الدولة اللبنانية. هؤلاء الشبان من جنود وضباط على استعداد للتضحية بحياتهم من أجل لبنان وليس من أجل أجندات خارجية تعتبر الوطن الصغير مجرّد «ساحة» واللبنانيين مجرد ادوات يمكن التضحية بهم ولا يصلحون لغير ذلك.
مع اقتراب الذكرى العاشرة لإستشهاد رفيق الحريري ورفاقه، تلقى رفيق الحريري أفضل هدية يمكن أن يتلقاها. هناك مؤسسات لبنانية مهمّة ما زالت تعمل من أجل لبنان. صحيح أن عدد المؤسسات التي تعمل قليل، لكنّ الصحيح أيضا أنّ هناك صمودا لبنانيا في وجه الإرهاب والتطرف بغض النظر عن الفكر الذي يحاول الإرهابيون استخدامه غطاء لأفعالهم.
المفارقة أن لبنان ما زال يمتلك مؤسسات حقيقية. إنّها مؤسسات تضم افرادا من كل الطوائف والمذاهب والمناطق يؤمنون بالصيغة اللبنانية. في المقابل، إن النظام السوري الذي سعى دائما إلى تصوير لبنان بأنّه بلد «هش» إنكشف على حقيقته كنظام اقلوّي يعود الفضل في عدم سقوطه إلى الآن، إلى ايران وروسيا.
لا تزال الدولة العميقة موجودة في لبنان، على الرغم من كلّ ما يقال عن صيغته وتركيبته الطائفية. من كان يصدّق أن المسلحين الفلسطينيين سيصبحون خارج الأراضي اللبنانية؟ من كان يصدّق أن السوريين سيخرجون من لبنان بعد احتلال استمر ثلاثين عاما. من يجرؤ الآن على التصديق أن لا مستقبل للمشروع الإيراني في لبنان؟