يوم أمس حلّت الذكرى الخمسون لـ «نكسة» 1967. لكنّ الأسبوع الماضي شهد ردّين على هذه المذلّة المديدة:
– انتهى إضراب الأسرى الفلسطينيّين في السجون الإسرائيليّة بتحقيق بعض المطالب الأوّليّة والعادلة، وبعدم تحقيق بعضها الآخر. إضراب المساجين قدّم صورة أخرى عن الظلم والقسوة وأنظمة العقاب في إسرائيل، ولكنْ أيضاً عن صعوبة إحراز نصر واضح وكامل حتّى في مسألة بسيطة وبديهيّة كهذه.
– منع الأمن العامّ اللبنانيّ عرض فيلم «المرأة الخارقة» الأميركيّ في صالات لبنان، لأنّ بطلته مجنّدة في الجيش الإسرائيليّ وملكة جمال سابقة في بلدها. تمّ ذلك بعد مناشدات عدد من الناشطين وإحدى الوزارات. المطالبون بالمنع شكروا الأمن العامّ على ذلك. الرقابات الكثيرة التي يمارسها هذا الجهاز على الحرّيّات والحياة الفنّيّة والثقافيّة وُضعت بين قوسين. أهل المنع أخوة!
واضحٌ أنّ «الردّ» ليس في حجم التحدّي البادئ قبل نصف قرن! في كفّةٍ، هزيمة تمتدّ من احتلال الضفّة الغربيّة وغزّة وسيناء والجولان واهتزاز هيبة عبد الناصر، وصولاً في يومنا هذا إلى انشطار الضفّة والقطاع وتراجع وزن القضيّة الفلسطينيّة. في كفّة أخرى، فرض تحسين طفيف لشروط الاعتقال الإسرائيليّ ومنع فيلم سينمائيّ في لبنان!
عدم التوازن المريع هو ما يفسّر تلك الحاجة إلى الانتصار، أيّ انتصار، وبأيّ ثمن. «أعطونا ما يشبه الانتصار، ونحن نتكفّل بجعله مقدّساً وإلهيّاً. ألم يحصل مثل هذا في الماضي القريب؟». هذه المخاطبة الضمنيّة محزنة جدّاً وتدمي القلب.
ذاك أنّ اللغة التي صُوّر بها «انتصاراً» إضراب الأسرى ومنع الفيلم، في الذكرى الخمسين لـ «النكسة»، خلت من كلّ تواضع. لقد أوحت بأنّ الردّ متوازن مع الهزيمة. بأنّه كان في حجمها. اللغة المستخدمة لغة خوارق. المصير وُضع على الطاولة: البطولة. التحرّر. التحرير. الثورة. الانتفاضة. القداسة. الكرامة. الشرف. القضاء والقدر. البداية والنهاية… بهذه المصطلحات التي تزن بالأطنان وُصف «الانتصاران». اندلق القاموس إيّاه مرّة أخرى. الإسرائيليّون الأكثر قياميّة لا يقولون أكثر من ذلك حين يصفون انتصاراتهم بما فيها قيام الدولة في 1948 ثمّ انتصار 1967!
لقد بالغ مناضلونا قليلاً. في أحسن حالاتهم ردّوا ردّاً خارقاً على «المرأة الخارقة»، لكنّهم تصرّفوا كأنّهم ردّوا على الهزيمة الخارقة.
ما كان متوقّعاً، بعد خمسين عاماً، هو الوقوف بشيء من الحزن، إن لم يكن الخشوع التأمّليّ، أمام نصف قرن من المهانة والانكسار. المتوقّع كان التساؤل: لماذا حلّ ويحلّ بنا كلّ هذا، وظهور مراجعات نقديّة وتفكير في كيفيّة وقف هذا المسار المتمادي بصور وأشكال أخرى.
المعنيّون فضّلوا أن يصبّوا جهودهم على الاحتفال الصاخب بحصول المساجين على زيارات أكثر في سجونهم، وبمنع فيلم في بيروت.
ما يزيد البؤس بؤساً أنّهم أنفقوا مخزونهم اللغويّ على هذين «الانتصارين». لم تبقَ كلمات تقال في وصف انتصارات أكبر. لكنْ هل كان ليحصل هذا، وهل كان ليستمرّ هذا التقليد إيّاه في تسوّل الانتصارات ثمّ ادّعائها ونفخها، لو أنّ في أفقنا انتصاراً فعليّاً ممكناً؟
الجواب، بكثير من الأسى والحزن، لا. وكما قيل مرّة: من لا يعرف كيف ينهزم لا يعرف كيف ينتصر، وبالتالي لا يعرف الفارق بين النصر والهزيمة.
لهذا، مثلاً، يتراءى لمعظم أصحاب «الانتصارين»، أنّ «العدوّ في مرمى صواريخنا». أنّ الطريق الالتفافيّة التي تأخذ «حزب الله» إلى سوريّة والعراق ستنتهي به حكماً في القدس. أنّ صنّاع هزيمة 1967 هم إيّاهم الذين «سيحرّرون فلسطين»، لكنْ فقط بعد أن ينهضوا من قبورهم.
الواقع حارق جدّاً. صورته ورديّة جدّاً. هول التراجيديا في وضعنا هذا هو وحده ما يردع عن الكوميديا.