تشهد بلدان الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط في الآونة الأخيرة تطورات في قطاع النفط قّلما شهدتها من قبل. فلا يمضي شهرٌ إلّا ونسمع عن اكتشاف نفطي جديد أو إعلان دورة تراخيص أو تحالفات استراتيجية بين الدول لتسويق الغاز المكتشف. وقد ساهمت هذه التطوّرات في تحريك ديناميّة جيوستراتيجيّة دفعت بالدول العظمى إلى مراقبتها ومواكبتها عن كثب، حتّى إنها تدخّلت لتذليل العقبات حيث أمكن، وهذا ما يدعونا إلى عرض آخر المستجدّات في البلدان الثلاثة القريبة من لبنان، مصر وقبرص وإسرائيل.
الاكتشافات المصرية
يعود اكتشاف النّفط في البرّ والبحر في مصر إلى أكثر من ستين عاماً، وقد عُدّتْ مصر حتّى سنة 2005 بلداً مصدّراً للنفط وخصوصاً الغاز، حيث تمّ بناء معملين مسيّلين (LNG) للغاز بهدف تصديره. فضلاً عن ذلك، جرى تمديد أنابيب لتغذية الأردن وسوريا ولبنان وحتى إسرائيل. غير أنّ الأحداث التي حصلت وأطاحت الرئيس مبارك والأسعار المتدنية التي كانت تشتري بها الدولة المصرية الغاز من الشركات العالمية العاملة فيها، حالت دون تشجيع الاستثمار والاكتشاف، ما خفّض الإنتاج وجعل مصر غير قادرة على تأمين حاجتها، فأوقفت التصدير على نحوٍ شبه كامل وراحت تستورد الغاز المُسال بعدما كانت تصدّره. وما إن تسلّم الرئيس السيسي زمام الحكم حتى عاد واتفق مع الشركات على أسعار أكثر واقعيّة حفّزتها على معاودة التنقيب والاستكشاف في البحر والبرّ. فاكتشف حقل «زُهر» باحتياط يزيد عن 30 تريليون قدم مكعبة ليكون أكبر اكتشاف غازيّ في تاريخ البحر الأبيض المتوسّط. ما سلّط الضوء مجدّداً على هذه المنطقة ودفع بالبلدان المجاورة كقبرص وإسرائيل إلى إطلاق دورات تراخيص جديدة لتلزيم بلوكات إضافيّة في مياهها الاقتصاديّة الخالصة.
قبرص والأسواق الجديدة
مع إطلاق دورة التراخيص الثالثة في بداية هذه السّنة، شهدت قبرص إقبالاً مشجّعاً جدّاً للشركات العالمية، ومن بينها شركة ExxonMobil الأميركيّة التي تُعدّ أكبر شركة نفطيّة في العالم إذا ما استثنينا الشركات الوطنيّة. وقد وقّعت قبرص في شهر آب الفائت اتفاقية مبدئيّة مع مصر لمدّ خطٍّ بحريٍّ يربط «حقل أفروديت» بالشاطئ المصري. وإذا ما جرى تذليل العقبات المالية لبنائه يُباشر العمل به في سنة 2020. وتطمح مصر من خلال هذه الاتفاقيات إلى أن تصبح محوراً رئيساً لتصدير الغاز المسال من شرق البحر الأبيض المتوسط، خصوصاً أنّ معمليها جاهزان لاستقبال الغاز الطبيعي وتسييله وتصديره إلى جميع أنحاء العالم.
ولا يبقى على قبرص المنقسمة منذ أكثر من أربعة عقود إلّا تخطّي القضايا السياسية الشائكة التي تواجهها لكي تتوحّد مجدّداً، فينطلق قطاعها النفطي بزخم أكبر وتفتح عليها أسواق جديدة للغاز المكتشف. وتعمل البلدان الأوروبية اليوم، كما الولايات المتحدة، على دفع المفاوضات القائمة بين قبرص اليونانية والتّركية بهدف الوصول بأسرع وقت إلى اتّفاق سلام بينهما. أمّا المحفّز الأساسي هذه المرّة فهو المخزون النّفطي الواعد الذي تملكه هذه الجزيرة الشرق متوسطية. وقد صرّح المبعوث الخاصّ الأميركي لشؤون الطاقة آموس هوكشتاين أمام الكونغرس مؤخّراً عن أهمية الاكتشافات الغازية في شرق البحر الأبيض المتوسّط، ما يدعو إلى المساهمة بجدّية لحلّ المشكلة القبرصية فينعكس إيجاباً على المنطقة. وبحسب هوكشتاين، فإنّ عدم حل المعضلة القبرصية سيمنع استخراج الغاز من كامل المنطقة، نظراً إلى عدم إمكانية الولوج إلى الأسواق المستوردة وبالأخص السّوق الأوروبي. وتبقى نظرة الولايات المتّحدة الاستراتيجية لتصدير غاز المنطقة تتمحور على تعاون متين بين إسرائيل وتركيا، والعائق الأساسي لذلك هو تأخّر الحلّ القبرصي فالخط الغازي سيمرّ حكماً عبر بحر قبرص. كما ترى السياسة الأميركية أنّ سرّ نجاح تصدير غاز المنطقة يكمن بالتعاون بين إسرائيل وقبرص ومصر وتركيا. وسيُخفِّض هذا التعاون على هذه البلدان قيمة تكلفة تطوير البنية التحتيّة للتصدير، خصوصاً أنّ مخزون أغلب حقول المنطقة يبدو متدنياً حتى الآن. ووفقاً للمفهوم الأميركي، يؤدي عدم التعاون إلى بقاء هذه الثروات من دون استخراج لعدم جدواها الاقتصادية.
ومن المتوقّع أن يُجَرّ الغاز القبرصي والإسرائيلي إلى مصر لتسييله في المعمَلَين القائمَين حاليّاً هنالك، ما يوفّر على البلدين استثمارات بمعامل تسييل جديدة تزيد كلفة إنشائها على عشرات مليارات الدولارات.
إسرائيل تدخل على الخط
أعلنت إسرائيل في خلال السنوات القليلة الماضية اكتشاف حقول غازيّة عديدة، أبرزها «ليفياتان» و «تمار» بمخزون قوامه نحو عشرين وثمانية تريليون قدم مكعبة على التوالي. عانى هذا القطاع تأخيراً يقارب الثلاث سنوات جرّاء أحكام الاحتكار لاتّحاد الشركات المكتشفة لأغلب الحقوق الإسرائيليّة، من ثمّ إجبار الاتحاد على بيع قسم من هذه الحقول. ولم تتوقّف إسرائيل عن السّعي الدؤوب لإيجاد أسواق لغازها، فأبرمت اتفاقيات بيع طويل الأمد مع أغلب جيرانها كالأردن والسلطة الفلسطينيّة ومصر. غير أنّ إمكانيّاتها التصديريّة تفوق بشكل كبير حاجات هذه البلدان، ما أجبرها على التقارب مجدّداً من تركيا لتصدير الغاز عبر أنبوب يمرّ بالمنطقة الاقتصاديّة الخالصة لقبرص، آملة إمكانية التصدير إلى أوروبا عبر تركيا.
وقد أعلنت إسرائيل أخيراً موعد إطلاق دورة تراخيص جديدة لأربعة وعشرين بلوكاً بحريّاً تقارب مساحتها الإجمالية العشرة آلاف كيلومتر مربّع. وبحسب وزارة الطاقة الإسرائيليّة هناك 6.6 مليارات برميل من البترول و2.2 تريليون متر مكعب من الغاز يمكن اكتشافها في منطقتها الاقتصادية الخالصة. ويقوم حالياً وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتس بالتسويق لهذه الدورة لدى العواصم البتروليّة العالميّة كلندن وسنغافورة وهيوستن. إضافةً إلى ذلك، أعلنت إسرائيل أنّ حكومتها ستموّل مدّ خطوط الغاز التي ستصل الحقول الصغيرة بعضها ببعض وبالشاطئ الإسرائيلي لتقليل كلفة الاستثمارات للشركات المهتمّة، ما سيشجّع على تطوير هذه الحقول الصغيرة. أمّا الأسباب غير المعلنة لهذا الكرم الإسرائيلي فهي التشجيع على الاستثمار بالحقول الحدوديّة مع دول الجوار، ما سيحرم جيرانها الاستفادة من هذه الحقول إذا امتدّت إلى خارج حدودها.
وأشارت إسرائيل في أواخر أيلول إلى اتفاقية غاز مع شركة الكهرباء الأردنيّة بقيمة عشرة مليارات دولار لمدّة خمس عشرة سنة ليتمّ استجرار هذا الغاز من حقل «ليفياتان» إلى الأراضي الأردنيّة. وقد استحوذت مؤخّراً شركة Energean اليونانية على حقوق التنقيب في حقلي «تنين» و «كريش» القريبين من لبنان بقيمة 148 مليون دولار أميركي، وقد تمّ اكتشاف هذين الحقلين منذ أكثر من سنتين واللذين يحتويان على أكثر من تريليوني متر مكعب من الغاز. وضمن شروط الصفقة أن تقدّم الشركة في خلال ستّة أشهر خطّة تطوير الحقلين للموافقة عليها من قبل الحكومة الإسرائيلية ومن بعدها مباشرة العمل. وقد حصلت الشركة في المقابل على تسهيلات بالدفع ونسبة متدنيّة للأتاوى التي يجب أن تدفعها.
أمّا دخول شركة يونانيّة في القطاع النفطي الإسرائيلي فله مدلولات عديدة للصناعة النفطية في شرق بحر الأبيض المتوسّط، فاليونان تُعدّ ممرّاً طبيعيّاً للغاز الإسرائيلي إلى أوروبا ما يخلق حلفاً رباعيّاً قويّاً يتألّف من مصر وقبرص واليونان وإسرائيل. ويمنح هذا التضامن لتلك الدول سهولة الدخول إلى السوق الأوروبي ومنافسة الغاز الرّوسي هناك، ما يساهم في خفض تكلفة البنية التحتيّة لتصدير الغاز من المنطقة إلى أوروبا على نحوٍ مهم ويجعل الاكتشافات المتتالية تنعم بجدوى اقتصادية عالية.
أما أين لبنان من الذي يحصل في المنطقة، وهل يستطيع أن يلحق بالقطار؟ فإن أردنا أن نجيب عن هذا السؤال ونضع هذا القطاع الواعد للبنان واللبنانيين على السكّة مجدّداً، فما علينا إلّا أن نترفّع عن المصالح الشخصيّة والضيّقة.