لم يعد معقولاً ولا مقبولاً أن يظل الوضع الاقتصادي والمالي في البلاد في قبضة أهل السياسة وهم يتناحرون بحيث باتت المصلحة الوطنية تقضي بفصل أولويات الناس عن أولويات الوزراء والسياسيين ومصالحهم الشخصية، لا أن تبقى هذه الأولويات جزءاً من خلافاتهم كما هو حاصل اليوم مثل موضوع تأمين تصدير الانتاج الزراعي والصناعي، وموضوع إقرار القروض والمساعدات للبنان لتمويل وتنفيذ مشاريع حيوية وانمائية تستفيد منها كل المناطق، إذ لا يجوز لخلاف على انتخاب رئيس الجمهورية تعطيل عمل الحكومة خصوصاً عندما يتناول مطالب الناس وحاجاتهم اليومية، أو تعطيل عمل مجلس النواب لعدم الاتفاق على تقديم الأهم على المهم.
ومن المستغرب أن يكون من يعطلون انتخاب رئيس للجمهورية هم الذين يتذرعون بذلك ليعطلوا عمل كل المؤسسات. فما هو ذنب التاجر والمزارع والصناعي والعامل كي يدفع الثمن؟! فعلى الوزراء إذاً أن يتفقوا على إقرار المشاريع التي تهم الناس وهم من كل المذاهب والمناطق، وخصوصاً تلك التي تتعلق بمعيشتهم وحياتهم اليومية. أما تلك التي لها طابع سياسي مثل التعيينات وغيرها فليبقَ خلافهم عليها إلى ما شاء الله، لا أن تكون سبباً لتعطيل الاهتمام بأولويات الناس. وعلى النواب أيضاً أن يفصلوا بين المشاريع التي لها طابع سياسي والمشاريع التي لها طابع إنمائي واقتصادي، فلا يعطلون مشاريع تهم الناس مثل الكهرباء والماء والاستشفاء بسبب خلافهم على مشاريع لها طابع سياسي أو شخصي مثل التعيينات من أجل تعطيل آلية تصدير الانتاج الزراعي والصناعي الذي يهم كثيراً من اللبنانيين وفي كل المناطق. ثم ما علاقة إقرار الموازنة العامة والقروض والمساعدات والهبات للبنان بشرط إقرار قانون للانتخابات النيابية واستعادة الجنسية ومشاريع قوانين مماثلة؟
لذلك ينبغي فصل المواضيع الاقتصادية والمالية والانمائية عن المواضيع السياسية، وأن يتم إقرارها بأكثرية النصف زائد واحد إذا تعذّر التوافق عليها لأسباب شخصية أو سياسية. أما الموافقة على المواضيع السياسية والأساسية المثيرة للخلاف فتحتاج الى اجماع أو إلى أكثرية الثلثين، وعلى الجميع أن يفهم أن الاستقرار الاجتماعي هو الذي يحقق الاستقرار الأمني.
لقد أيدت تقارير صندوق النقد الدولي خطوات مصرف لبنان في دعم الاستقرار النقدي وأشادت بدور الحاكم رياض سلامة في ترسيخ هذا الاستقرار، لكنها اعتبرت أن الصراع الدائر في سوريا لا يزال يهيمن على لبنان، وان وجود اللاجئين السوريين فيه رفع نسب الفقر والبطالة وفرض ضغوطاً على المالية العامة والبنية التحتية. وقد تراجعت الاستثمارات في لبنان وكذلك الرساميل الوافدة اليه ما يقلص فرص العمل.
والسؤال المطروح هو: هل تعي الطبقة السياسية عواقب هذا الواقع وأخطاره وهي تتناكف وتتناحر على تعيينات، ومحاصصات وسمسرات ولا تأبه لا لنداء 25 حزيران الذي صدر عن الهيئات الاقتصادية والنقابية والعمالية الممثلة لمختلف اتجاهات الشعب وفئاته أكثر مما تمثله هذه الطبقة، ولا تهتم حتى بمؤشرات احتمال حصول انهيار اقتصادي في لبنان، اذ أن نسبة البطالة بلغت 25 في المئة والنمو 2 في المئة والدين العام 70 مليار دولار والعجز التجاري 20 ملياراً؟
أليس من حق الناس أن يسألوا الطبقة السياسية أو بعضها الى أين تذهب بلبنان؟ فلا هي تتفق على انتخاب رئيس للجمهورية يكون انتخابه مفتاحاً لحل كل المشكلات التي تواجهها الحكومة ومجلس النواب، ولا هي تهتم بأولويات الناس لأنها تخضعها لخلافاتها السياسية وحتى الشخصية، فيما لبنان يسير نحو الهاوية، وزعماء فيه يتفرجون أو يتجادلون على جنس التعيينات وعلى جنس المرشحين للرئاسة الاولى.
إن هذا الوضع السياسي المتردي يذكّر بكلمة الرئيس حسين الحسيني في جلسة مناقشة البيان الوزاري (12/ 8/ 2008) وجاء في مستهلها: “أقول بصدق، أكثر يوم ينطبق على وضع الناس القول المأثور: “الناس من خوف الذل في ذل”، وختمها بالقول: “إن أغرب ما في الأمر هو أن نكون مدعوين الى الفرح بتعليق قيام الدولة، والى تقديم الشكر. وأمام حقيقة أن السلطة قادرة إذا أرادت وحقيقة أنها حتى الآن لا تريد، أجدني مضطراً الى إعلان استقالتي من عضوية هذا المجلس، عودة مني الى أصحاب الثقة التي باسمها يكون عملي. وقد يصبح المرء عقبة أمام ما أراد، إلا أن للفرد أن يعرف حدوده”.
هل من آذان تسمع وعيون ترى وألسنة تنطق بما صار اليه لبنان الوطن والمواطن؟