«DANS CE PAYS L’INVRAISEMBLABLE, EST TOUJOURS VRAISEMBLABLE»
في منتصف الثمانينات كان سفير إيطاليا في لبنان انطونيو منشيني نجم الصالونات السياسية والاجتماعية والثقافية. كانت شخصيته جاذبة، وحضوره محبباً، وتعليقاته الجادة والساخرة تسري في المنتديات سريان النار في الهشيم، نظراً للعِبَر والدلالات التي تنطوي عليها.
كان السفير منشيني القصير القامة، بلحيته البيضاء المشذبة بأناقة، رجلاً اجتماعياً بامتياز. ينشر الفرح من حوله، متفائل الطبع. وكان يحب لبنان حباً كبيراً، وبات على اطلاع عميق بطبيعة تركيبته القوية والهشة في آن، وتأثير الطوائف على مفاصل حياته العامة. ولذلك أجاد لغة التخاطب مع جميع الفئات، وفُتحت في وجهه كل الأبواب. ما أهّله لأن يضطلع بدور كبير في وصل الضفاف بين مكونات الوطن، ونقل الرسائل بأمانة بين الأطراف، ولم تقف في طريق موكبه العابر لخطوط التماس، الحواجز التي انتشرت عليها، والتي شطرت المناطق اللبنانية، وكادت تفلح في تفكيكها، لولا المبادرات العربية والدولية التي تمكنت بعد جهود جبارة من عقد مؤتمر «الطائف»، وإنهاء حال الحرب، أو على الأقل العمليات الحربية. وقد يكون ذلك من حسنات هذا الاتفاق النادرة.
وكان السفير منشيني، وبمبادرة منه، وهو من فئة الـ»fin gourmet»، أنشأ مدرسة لتعليم فن الطبخ الايطالي، وكان هو شخصياً يتولّى إعداد الأطباق الشهية من «الباستا»، و»الفيتوتشيني» و»البيتزا» على انواعها. كما «الصالصا» بمختلف النكهات أمام عشرات من السيدات اللبنانيات المهتمات. وكان يطلب من كل سيدة أن تحضّر طبقاً معيناً لتذوقه في الحصة المقبلة، للحكم على مدى انطباقه على المعايير والمقادير التي حدّدها، وإبداء الملاحظات، قبل أن يُصدر حكمه النهائي، إذا كان يصلح للأكل او الأفضل أن يُتلف. كان السفير الايطالي ورائدات «مدرسته» سعداء، بعدما ذاع صيتها، لأنّها جمعت الفائدة إلى المتعة، وأشاعت الفرح، ولو في ظلّ النشاط المدفعي حاملاً الموت إلى الأبرياء وغير الأبرياء من المواطنين الذين سقطوا في الحرب المجنونة.
السفير انطونيو منشيني لم يشأ أن يغادر لبنان- شأنه شأن زملائه- السفراء العرب والأجانب الذين غادروا البلاد بعد اشتداد الحرب بين «القوات اللبنانية» بقيادة الدكتور سمير جعجع، ووحدات الجيش اللبناني بقيادة رئيس الحكومة الانتقالية، قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون. وقد أطلق عليها الاول: «حرب الالغاء» ووصفها الثاني بحرب «التوحيد»، فيما سمّاها البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير «حرب الأخوة الاعداء». تألّم السفير منشيني كثيراً لواقع الحال في بلد الأرز، وانضمّ إلى مساعي التهدئة التي كان يضطلع بها السفير البابوي، وقد زاد ألمه عندما تبين له أنّ كل ما يُبذل لن يثمر، بل هو مضيعة وقت، انطلاقاً من اعتقاده أنّ ما من أصمّ الّا من لا يريد الاستماع، وأنّ ما من أعمى الّا من لا يريد النظر. لكن القدر لم يمُهل السفير، فأدركه المرض، ولم يسعفه الطب، فأسلم الروح في أحد مستشفيات الشطر الشرقي من بيروت. وتقرّر نقل جثمانه بحراً، لتعطّل الملاحة الجوية في مطار بيروت. ولأنّ الملاحة البحرية انطلاقا من مرفأ بيروت متوقفة بسبب الأعمال الحربية، اتُفق على الإبحار بجثمانه من مرفأ جونيه. وكيف السبيل إلى ذلك ونفق نهر الكلب مغلق من الجانبين؟ جرت اتصالات عاجلة ومضنية أوروبية- فاتيكانية- ومحلية، ادّت في نهاية المطاف إلى هدنة عسكرية موقتة بين الطرفين سمحت بعبور الجثمان، ونقله بحراً في سفينة خاصة إلى قبرص، ومن ثم إلى روما.
لقد أحدث رحيل منشيني، سفير الدولة الاوروبية التي تربطها صداقة قديمة ووطيدة بلبنان، موجة من الحزن والأسى بين اللبنانيين عموماً ولدى عارفيه خصوصاً.
كان هذا السفير ذكياً، قارئاً جيداً للأحداث، وله قدرة مدهشة على تقصّي المعلومات وغربلتها وتحليلها توخياً للدقة، قبل إرسالها او التداول بها. ولكنه كان يجد في لبنان بلد العجائب والغرائب، بما يشهد من تقلّبات وتبدّلات سريعة في الأوضاع، لدرجة انّه يستحيل احياناً فهم أبعاد التحولات والمتغيّرات التي كانت تحصل بين ليلة وضحاها. وهذا ما دفعه إلى إطلاق عبارة عمّت شهرتها الأندية السياسية والإعلامية في ذلك الحين: «DANS CE PAYS L›INVRAISEMBLABLE EST TOUJOURS VRAISEMBLABLE.» أي ما ترجمته: «في هذا البلد كل أمر غير قابل للتصديق، هو دائماً قابل للتصديق».
فعملية الانتقال من حال إلى حال ممكنة باستمرار، وهذا ما دّلت عليه الأحداث وتقلّباتها. ففي سحر ساحر ينقلب المذنب إلى ضحية بريئة، والضحية إلى جلاد، والقاتل إلى مقاتل، والظالم إلى مظلوم، والمرتشي إلى نزيه، والمصارف إلى قطاع يتقاسم المعاناة مع المودعين. طبعا الـ «INVRAISEMBLABLE» هو «VRAISEMBLABLE» في لبنان، ويضيق المجال بالأمثلة.
وهذا المثل للسفير الايطالي الراحل، يذكّرني بأحد «اسكتشات» الأخوين رحباني «بهالبلد كل شي بيصير».
أجل «بهالبلد كل شي بيصير». الّا أن يصبح لبنان وطناً كامل المواصفات والاوصاف، نحبه ولا نستحي به. وليس فقط نحبه.
أيها اللبنانيون اسمعوا، وعوا، وإن سمعتم، فاتعظوا.