أمّا وقد بلغت الأمور ما وصلت إليه، مرفقة بقلق غير مسبوق على الحاضر والمستقبل، تقلّصت الخيارات أمام الطبقة الحاكمة إلى اثنين لا ثالث لهما: إما الشروع، الآن، في إجراءات تنتشل البلد من الدَرْك، فتُبعد شبح الانهيار، وتضمن لأهل الحكم عدم ضياع إرثهم السياسي، أو المضي في المقاربة الحاليّة للأزمة – الكارثة، والتي تتكاثر المؤشرات إلى أنّها تدفع بلبنان نحو الفوضى، وبالطبقة السياسية نحو الانتحار.
صحيح أنّ ما يعانيه البلد، من أزمات تتعدّد التعبيرات عنها، بين شحّ في الدولار، ينعكس صعوبة، قد تصل حدّ الاستعصاء، في توفير السيولة الضرورية لتمويل استيراد السلع الأساسية، وبين إفقار تتسارع وتيرته، يلامس حدّ الجوع، وانكماش اقتصادي، شلّ قطاعات بكاملها، وبطالة متفاقمة، تبدو، في نظر كثر، واضحة المعالم. كذلك حال الحلول التقنيّة، التي تتقلّص فرصها يومياً، وهي تندرج في مجموعة إجراءات تمتنع الطبقة السياسية عن تطبيقها، إما جهلاً أو إنكاراً، لتشابك المصالح الشخصية، بدءاً بأكثر الزعامات، ومعهم ازلامهم وتوابعهم.
لكن الواقع والمخارج أكثر تعقيداً مما يظن حتى أكثر الخبراء تشاؤماً أو تفاؤلاً. ما يُحكى عن “أزمة اقتصادية” لا يغدو أكثر من خطأ شاع في البلد، بمختلف فئاته من غير المتخصصين الذين تتشكّل أكثرية الطبقة السياسية وشرائح الشعب منهم. كل ما يحدث من ويلات على الساحة الاقتصاديّة، لا يمكن تصنيفها في خانة “أسباب الأزمة”، بل هي نتيجة لسياسات مالية سيئة تحكّمت بالبلاد على مدى السنوات الـ25 الماضية.
المشكلة بدأت مع ظهور “الحريرية السياسية” أوائل تسعينيات القرن الماضي، مدفوعة برغبة في تنمية سريعة لم تُعر اهتماماً للتكاليف المستقبلية، مع استبدال الاقتصاد الانتاجي بالاقتصاد الريعي. وقتها رأى الساسة، الاتكاليون بطبيعتهم، أنّ الحريري الأب يستند إلى دعم عربي ودولي يخوّله الحصول على الأموال اللازمة لمشروع إعادة الإعمار وإنقاذ لبنان بعد دمار الحرب الأهليّة. ساروا بمعيته وتشاركوا المغانم وتحاصصوا الدولة. بات الفساد إرثاً، بعدما كان مجرد ممارسة. كان بالمفرق وبالليرة، فأصبح بالجملة وبالدولار.
سرعان ما انهارت الروزنامة الزراعيّة. عانت الصناعة من فقدان القدرة التنافسية في ظل شبه غياب للدولة. أما السياحة، فذُبحت من الوريد، وأُطلقت عليها رصاصة الرحمة مع ظهور وجهات سياحية بديلة، تبدأ من تركيا ولا تنتهي بإيطاليا، مقاصد كثيرة أرخص ثمناً وبمغريات أكثر، ليس فيها تلوث في الشواطئ والانهر والمياه الجوفية.
النتيجة البديهية كانت انكماشاً اقتصادياً، لم يشعر به اللبنانيون. وقتها، كان لديهم مصدر دخل يعتمدون عليه: الفوائد، التي أبقت على نشاط المتموّلين ومكّنتهم من تأسيس بعض الأعمال التي أمّنت بعض الوظائف للناس لسنوات طويلة. كانت تتموّل من تدفقات نقدية تدخل لبنان كل عام من وجهات مختلفة، أدّت الدور الرئيس في تسيير عجلة الاقتصاد والاستهلاك. تحوّلت ودائع الناس إلى “عصب الاقتصاد”، ودخل الجميع في حالة “سُكر”، تتقدّمهم المصارف التي انتشت بأرباح دفترية تسجّلها الدولة لها عبر البنك المركزي، حتى اصبحت إستدانة الدولة منها تُسهم بأكثر من ثلثي ارباحها المجمعة، مما رفع رأسمالها المجمّع الدفتري من 300 مليون سنة 1992 الى ما يوازي 24 ملياراً اليوم، يُضاف إليها ما تمّ توزيعه خلال هذه الفترة على المساهمين.
بقيت الأمور على هذه الحال، حتى نما الدين بشكل كبير، في زمن عصفت فيه الأزمات في الخليج، وانتفت القدرة على خلق الثروة، كما كانت عليه الحال مع جيل الستينيات من المهاجرين إلى افريقيا وأميركا اللاتينية وأوروبا. تراجع حجم التحويلات بالدولار إلى لبنان إلى مستويات غير مسبوقة. ولهذه النقطة الأخيرة أهميّة بالغة، ذلك أنّ الدولار الحقيقي ليس ذلك المدوّن كفوائد لدى المصارف، إنما الذي يدخل إلى البلاد ويمكن استخدامه للاستثمار أو شراء البضائع مثلًا.
ما لم تلتفت إليه الحكومات المتعاقبة، أنّ لهذا المال أصحاباً، وأنّ يوماً لا بدّ قادم سيطالبون به. مال استخدمته المصارف لتمويل الدولة (التي أهدرته باعتراف الجميع)، وكأنّه مال متجدّد، نبع لا ينضب. وعندما صارت ديمومته متعذرة، وتوقّف تدفّق أموال الاستثمارات المباشرة ومعها الودائع، لم يتبقّ للاستخدام سوى الدولار الحقيقي (وليس ذاك المسجّل كفوائد). تقلّصت كمّيّته حتى بلغت الموجودات منه في البنك المركزي 32 مليار دولار في أفضل الأحوال. بدأ الصراخ يرتفع. أدرك المسؤولون أنّهم في حاجة إلى ما لا يقل عن 17 مليار دولار للاستيراد وتسديد أموال الاستحقاقات وتمويل العجز. استفاق الجميع من “سكرتهم” ليدركوا، بالملموس المرير، أنّ لا سحر ولا معجزات في لبنان. فهموا أنّ عصب المشكلة مالي، وليس اقتصاديّاً. نمط من الأزمات يصطدم فيه، للمرة الأولى، الطاقم السياسي الذي يبدو واضحاً أنه ليس معتاداً عليه، وليس مؤهّلًا لمواجهته.
اليوم الجميع متفقون على أنّ لبنان يتدرّج في مسار نهايته الى انهيار محتّم ما لم يُستدرك بإجراءات انقاذية. تحذيرات من هذا المصير صدرت من كل حدب وصوب: رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس النواب، والبطريرك بشارة الراعي، ومعهم وكالات التصنيف، والخبراء من لبنان وخارجه. إجراءات استثنائية للمصرف المركزي، نسفت مبدأ وقيمة وجوهر الاقتصاد الحر، من التمنّع عن تأمين الدولارات لطالبيها، والقيود على السحوبات النقدية، والتحويلات للخارج. إخفاق محاولات استدراج دعم خارجي، وآخرها زيارة الرئيس الحريري للإمارات والوديعة الموعودة. جهود وإجراءات ترقيعية فشلت، على ما يبدو، في منع الانزلاق نحو الأسوأ، في محاكاة شبه مطابقة لما عرفته بلدان عصفت بها أزمة انهيارية، مثل تركيا واليونان وقبرص وروسيا والبرازيل والارجنتين وغيرها.
سيناريو كهذا، إن وقع، عواقبه لا بدّ كارثية: جموع المواطنين المفقرين والجائعين تجتاح، على الأرجح، الدولة ومؤسساتها. ستسود الفوضى. بين أيدي اللبنانيين سلاح، والخشية أن يصار الى استخدامه. هناك خطورة أن تنشأ مناطق خارجة عن السلطة. والأخطر أن تسيطر على بعضها جماعات إرهابية متطرّفة كامنة وساعية إلى بؤر توتر للتمكّن منها. لا بدّ من اجراء وقائي وخطوة عملية تبادر اليها الدولة ومؤسساتها والقوى الحيّة الراغبة في انقاذ البلد.
خطوة ميزتها أنّها دستورية. لا تسعى إلى قلب الطاولة، ولا تغيّر في قيم ومبادئ الجمهورية. بل تعتبر من تقاليد المؤسسات اللبنانية تاريخياً: تشكيل حكومة طوارئ، لمهمة محصورة ولفترة زمنية محددة، من عسكريين مشهود لهم ومن قضاة ونخب وخبراء في المجالات الاقتصادية والاجتماعية لوضع السياسات العامة، على أن تكون مستقلة عن الأحزاب التي يجب أن تحصر دورها في المراقبة والمحاسبة عبر كتلها النيابية، كما يقتضي النظام البرلماني. حكومة لا بدّ من أن تتمتع بصلاحيات دستورية خاصة تمكّنها من وضع السياسات المالية والاقتصادية الموجبة لاحتواء الأزمة، ومن تحديث بنية الدولة وترشيقها بما يمنع الهدر وتبديد أموال الناس، سواء على شكل ودائع في المصارف أو رسوم وضرائب تجبيها الدولة. حكومة كهذه تحظى بتأييد البنى الأساسية للكيان اللبناني: المؤسسة العسكريّة، والإدارة، والناس، وهي قادرة على إخراج البلاد من عنق الزجاجة. وهي بحاجة، دولة وشعباً، إلى صدمة إيجابية. الناس ما عادت تعطي الثقة ولا حسن النية لأي فريق سياسي شارك في الحكم خلال العقدين الأخيرين. لكنها في الوقت نفسه مضطرة للتعايش مع الطبقة السياسية، المسيطرة على مفاصل الحياة كلها.
من هنا تصبح الحاجة ملحّة إلى تغيّير في اسلوب إدارة الحكم. هناك اقتناع عام بأنّ اللعبة انتهت، وما عاد ممكناً الاستمرار في الممارسة القائمة، وهو ما على قيادات البلد أن تدركه. إن لم تفعل مصيبة، وإن فعلت ولم تبادر إلى تغييره مصيبة أكبر. حكومة نوعية مدعومة عدالة بعضوية قضاة، وهيبة مصدرها الضباط والامنيون، وتنفيذاً من اصحاب الخبرة، هي الأقدر على إقناع المجتمع الدولي بجدوى تقديم الدعم للبنان، حيث تمويل البنى التحتيّة (فكرة “سيدر”) لم يعد يجدي نفعاً، بل باتت الحاجة ملحّة لأموال نقدية (عبر صندوق النقد الدولي أو تقديمات مباشرة من دول صديقة) لتثبيت الوضع المالي والنقدي.
لقد حانت لحظة الحقيقة. على الطبقة السياسية أن تحزم أمرها. شهوة السلطة تسبّب العمى. المراوحة في النهج نفسه لن تبقي ثوراً ولا طحيناً. محاولات البحث عن كبش محرقة لغسل اليد لن تجدي نفعاً. الكرة في ملعب الكبار، الرؤساء الثلاثة، ومعهم قادة القوى الرئيسية. فهل يلتقطون الفرصة؟