في العراق اليوم، يئنّ حيدر العبادي تحت وطأة ميليشيا «الحشد الشعبيّ». بوجودها لا يستطيع أن يحكم، ولا أن يفي بتعهّدات دولته لدول العالم، ولا أن يزيح سيف نوري المالكي المعلّق فوق عنقه. أمّا تسريحها فهو ما لا يقدر عليه، خصوصاً أنّ الطرفين يشربان من الماء نفسه، إنْ كقاعدة شعبيّة أو كتوجّهات سياسيّة وفكريّة.
وفي فلسطين، يتّضح مرّة بعد مرّة أنّ مشكلة المشكلات الحائلة دون التوافق بين سلطتي الضفّة الغربيّة وغزّة هي بندقيّة «حماس» والتنظيمات الأمنيّة في القطاع التي خرجت من فوهة تلك البندقيّة. فلا السلطة الوطنيّة في رام الله قادرة على التعايش مع هذه البندقيّة وتلك الأجهزة، ولا هي قادرة على التخلّص منها. والطرفان، السلطة و «حماس»، يريدان إنهاء الاحتلال الإسرائيليّ وإن اختلفت الطرق والاقتراحات.
وفي لبنان، تحوّل سلاح «حزب الله» إلى هدف بذاته. الحزب لا يقول بشكل محدّد ومُلزِم متى ينزع سلاحه، وليس هناك من يستطيع أن يحمله على قول كهذا، كي لا نقول على نزع كهذا. وبقية اللبنانيّين الذين لا يريدون هذا السلاح يمتنعون عن إدانة المقاومة حين لا تكون هناك أرض للتحرير. إنّهم فحسب ضدّ «هذه» المقاومة بعينها، التي لا يعتبرونها مقاومة حقيقيّة، لكنّهم، هم أيضاً، مع… المقاومة.
أمّا في سوريّة، حيث تعفّن النظام والثورة سواء بسواء، فصار البلد محفلاً للميليشيات التي انضافت إليها ميليشيات احتلاليّة من الخارج. وقد يجد واقع كهذا تتويجه ومأسسته في سلام يراه البعض آتياً من سوتشي. وعلى رغم المأساة السوريّة، وبسببها، بتنا هنا أمام مفارقة لافتة: فسويّة الوعي السوريّ باتت أرفع من سواها في المشرق لناحية واحدة على الأقلّ، هي أنّ الشراكات الإيديولوجيّة بين المتنازعين باتت في حدّ أدنى. لكنْ، على صعيد الممارسة، توحّدت ميليشيات السلطة وميليشيات معارضتها في سلوك عدوانيّ واحد على المجتمع.
الحالات الميليشيويّة هذه، التي يرتهن بوجودها مستقبل دول وشعوب، بل مستقبل إقليم، هي تفرّعات عن «قضايا مصيريّة» لا يستطيع أصحابها أن يتصوّروا الكون من دون وجودها. وفي هذه الغابة يختلط العداء للاحتلال بالرغبة في إحراز الغلبة الأهليّة على طرف آخر، مثلما يختلط تقديم الخدمات لنظام ما بتعفّن اجتماعيّ يزعم الانتصار للأمّة أو للدين أو للطائفة والإثنيّة.
هذا الانحياز العاطفيّ المشترك إلى الميليشيا يملك أسبابه السياسيّة التي لا يرقى إليها الشكّ: من تراكم التجارب الفاشلة للدول الفئويّة والمتسلّطة في معظم بلداننا، إلى الاحتلال الإسرائيليّ ومترتّباته في حالة فلسطين، ومن الخوف من «الشريك في الوطن»، إلى تمجيد أهليّ –حدّثته وأدلجته الأحزاب الحديثة– لقيم «الرجولة» والعنف والتزيّن بالسلاح.
لكنّ الخلاصة العمليّة ترتدّ، على تعدّد الأسباب واختلافها، إلى علاقة سيّئة بيننا وبين الدولة التي كلّما أردنا إصلاحها كسرناها وكسرنا المجتمع معها. فالوافد الطارئ من الخارج، الذي هو الدولة، بقي طارئاً وخارجيّاً بفضل الحاكم الذي يُبقيه هكذا وبفضل كثيرين من المحكومين الذين لا يرون في الأفق دولة بديلة بل ميليشيا بديلة.
والهزائم اليوم تسرّع تحلّلنا إلى ميليشيات، والميليشيات تسرّع إخضاعنا للاحتلالات، وهذا وذاك يعجّلان في انهيار مجتمعاتنا. وهكذا دواليك بما يضيف إلى أجندة التحرّر في منطقة المشرق العربيّ بنداً سابقاً على سائر البنود، بنداً يشرط البنود المتبقية ويفوقها أهميّة.