Site icon IMLebanon

  إنّها «ثويرة الواتسآب»

 

بعد أسبوعين على الانتفاضة الشعبية التي شهدتها كافة أرجاء لبنان الكبير المُحتفل بمئويته، تتضح بعض الأمور بينما يظل بعضها غامضاً، إما لأنها لا تزال تتطوّر، أو لأنها تجري بعيداً عن أضواء الكاميرات.

 

سارع البعض، منّي وهلم جراً، إلى نزع تسمية الواتسآب عن الانتفاضة بحجة أنها أكبر من انزعاجٍ من رسم عشرين سنتاً بكثير، وأن المشكلة نتيجة تراكم عقود من التجويع البطيء والانهيار السريع لدولة مافيوية في ظل النيوليبرالية اللعينة التي تحكمنا منذ نهاية الحرب الباردة، وفلسفات أخرى من هذا النوع. لكن بعد التدقيق في مجريات الأحداث كان الواتسآب هو الاستفزاز الأكبر والمحفّز الرئيس للأحداث، وكان تجاهل هذا الدافع من العوامل التي أخمدت زخم هذه الانتفاضة.

الواتسآب في لبنان بشكل عام، ولدى الطبقة العاملة بشكل خاص، هو أكثر من تطبيق للتواصل وتبادل الرسائل عبر الهواتف الذكية. «الواتس» هو المساحات العامة الغائبة في كافة مدننا والتي تسمح للأشخاص من ذوي الاهتمامات المشتركة بأن يتلاقوا من دون دفع رسوم دخول باهظة. الاختلاط البشري المباشر أصبح نادراً هذه الأيام وإن وجد فهو حكرٌ على الطبقات الميسورة، وهنا نتكلم عن الاختلاط الذي يُخرجك من تقوقعك ويسمح لك بتطوير الذات وتوسيع الأفق. فاليوم، في مدننا، تحول الاختلاط البشري إلى «بزنس» ويدفع من يقدر مالاً للتعرف إلى شريك في حلقات Speed Dating، أو لـ«السولفة» و«طقّ الحنك» في جلسات حكواتي أصبحت تسمى Story Telling، أو للسعي لتحقيق أحلام مهنية في ما يسمى DreamMatching، أو لاختبار المواهب في مناسبات الميكروفون المفتوح Open Mic، أو غيرها من التقاليد التي تهبسترت (من Hipster) وترسملت (من الرأسمالية) واحتُكرت (من Monopoly) من قِبَل فقاعة طبقية تضيق باستمرار. وغالباً ما تغيب الرقابة عن هذه المساحات ويتمتع روادها بحريات ليست متاحة لمن هم خارج هذا النادي. إذاً «الواتس» هو مساحة بديلة بعيدة عن رقابة دولة تحتضر لا تقوى إلا على المهمّشين. شاهدنا التعبير عن هذا الكبت عندما فتحت شاشات وميكروفونات التلفزة إذ تدفقت صراحةٌ تامة ومشاعر حقيقية لا يعتاد المرء في عصرنا رؤيتها «Live» (على الهواء مباشرة).

هذه المساحة هي أيضاً بديل النقابات لجيلٍ لا يعمل في وظيفة ثابتة. وبديل العمل الحزبي في فترة تاريخية تُختزل فيها السياسة بسطورٍ إعلانية وهاشتاغات. كما هي مساحة انتقام من الظلم والقمع الممارسيْن يومياً في حقهم. فهناك على سبيل المثال مجموعات على «الواتس» لأصحاب الدراجات النارية يحذر عبرها بعضُهم البعض من حواجز التفتيش الطيارة التي تنصبها قوى الأمن لضبط واحتجاز الدراجات النارية المخالفة والتي غالباً ما تكون مصدر رزق صاحبها. هذه المجموعات ليست عابرة للطوائف والانتماءات الحزبية فحسب، بل هي أيضاً لا تعترف لا بسايكس ولا ببيكو ولا بحدودهما. وإذا وسّعنا البيكار، فإن الواتسآب هو المساحة التي تجمع العائلات المشتتة حول العالم بحثاً عن قوتٍ، والتي لا يرى فيها حاكم مصرف لبنان (وفق ما قال في مقابلته الأخيرة مع شبكة «سي إن إن») إلا تحويلاتها بالعملة الصعبة الضرورية لتدعيم هرمه الورقي المتهالك.

ضريبة محمد شقير، الذي تدل كل تصريحاته على أنه يقطن في خندقٍ غميقٍ بعيدٍ عن البشر لا تصله إلاّ ثلّة من أمثاله، لم تكن امتداد يدٍ ناهبة إلى جيوب الناس بل كانت اعتداء سافراً على آخر المساحات التي تخصهم. وجاء الرّد على هذا الاعتداء فوراً مستهدفاً بؤرة الشقيريين، وهي أراضي وسط بيروت المحتلة من قبل شركة سوليدير غير الشرعية والتي لا تبعد إلاّ خطوات عن خندقٍ غميقٍ مأهول بكثير من البشر. قُمع المنتفضون بالغاز المسيّل للدموع والهراوات والرصاص المطاطي، ثم امتطى انتفاضتهم مندسو الطبقة الوسطى والذين هم أيضاً لديهم الكثير من المطالب المحقة في ظل فشل كامل للنظام القائم.

 

تمكنت السلطة من طمس الطابع الطبقي لهذا الحراك هذه المرة لكنها لن تكون محظوظة في المرات القادمة

 

 

هنا أيضاً برز جيلٌ من الشباب «المتعلّم» في جامعات خاصة، والذي يدرك أن هذه الدولة تنهبه ولا تنصفه وهو مقتنعٌ أنه يستحق أكثر ممّا يقدّم له لأنه مطّلع على العالم ومعتاد على مفهوم الإرضاء الفوري الذي كرّسته الثورة المعلوماتية. لكن هذه الجامعات ما هي إلاّ حاضنة ليبرالية تفقّس عمالاً مطيعين ينخرطون في منظومة معولمة ولا يسائلونها. فهم يسعون للحصول على وظيفة في شركات العالمية قد تأخذهم إلى الجزيرة العربية، أو – إن كانوا محظوظين – ينتهي بهم المطاف في بلد يمنحهم جنسية أجنبية، وفي كلتا الحالتين يفرح رياض سلامة ورَبعُه بتحويلاتهم. لا أحد في الجامعات يخبرهم بأن المنظومة التي يشكلون جزءاً منها فشلت أو تترنح في أماكن عدة حول العالم، وهي تطحن بلاداً وشعوباً وتضعهم شخصياً في تنافس مباشر مع أصدقائهم وأقرانهم ليرتقي بعضٌ منهم على حساب الآخرين. الوضع ذاته موجود في سوق الإنسانية والتنمية غير الحكومية الذي يستوعب الأفراد الذين لا يكون حافزهم الرئيس هو المال ومراكمته، والذين توجد في داخلهم نزعة سياسية تسعى إلى صعود جماعي للمجتمع، وينتهي بهم الأمر في منظومةٍ تحرّم عليهم المراكمة السياسية أو العمل الحكومي المباشر. أذكر ذلك لأن هذه الظاهرة التنافسية والتسلقية انعكست في ساحات بيروت المنتفضة حيث كثر التنافس على حساب التضافر في أكثر الأوقات حرجاً. ضف على ذلك اليوفوريا أو حالة السّكر الزائد التي يخلقها الشارع وظهر تأثيرها حتى على أعرق أحزاب الشارع، فما بالك بجيلٍ لم يعتد التفاعل البشري المباشر وإذ به يختلط بالآلاف دفعةٍ واحدة، فتستنتج أن الجيل هذا غير مؤهل حالياً للقيام بثورة. تلاعبت السلطة بالشارع كما أرادت وفتّتته، ونزعت عنه أنيابه السياسية باكراً، واستبدلتها بكرنفالِ وطنجي لأحلى عالم، وتنافس بين مجموعات لا تهددها. أدّى ذلك إلى نفور الغاضبين وتنفيس الاحتقان، بينما كان أهل السلطة يخوضون حرباً أهلية باردة خلف الكواليس.

لكن يخطئ أهل السلطة، المستقيلون منهم ومن هم باقون على العهد، في حساباتهم إذا اعتبروا بعد تقييمهم لحجم الانتفاضة بأنها عابرة أو غير مؤثرة في موازين القوى، أو لأنهم كشفوا أياديَ خفية كانت تحركها. الأزمة الاقتصادية والمالية ليست عابرة والإصلاحات المقترحة غير جدية ولن تحل أي مشكلة وقد لا تنفع حتى لوقف النزيف لبعض الوقت. نحن أمام سيناريو قد يتكرّر عند الاعتداء التالي على شعبٍ مخنوق بعد شهر أو سنة أو خمسة (ذلك إن لم تقرّر القوى الحاكمة نقل خلافاتها إلى الشارع، فتلك قصة أخرى). هذا الحراك ليس ثورة، لكنه «ثويرة» جيل شاب سيكبر سريعاً في ظل سياسة إفقار متعاظم وتهجير متعمّد يصعب يوماً بعد يوم. لقد تمكنت السلطة من طمس الطابع الطبقي لهذا الحراك هذه المرة، لكنها لن تكون محظوظة في المرات القادمة لأن الانهيار يمحو الفوارق الطبقية التي استُغِلّت اليوم بلحظة، وهو آتٍ لا محال إذا بقينا رهينة الدَّين لأخطبوط المصارف.

 

من ملف : الصراع على الحكومة