Site icon IMLebanon

ألف وردة لذكراهما

 

هذه المرة “فقَدَ كل لبنان” علمَين مميّزين أثريا الحياة الثقافية بجدول ماء في صحراء جمهورية اليَبَاب.

 

جبور الدويهي وفارس ساسين صديقان شاء القدَر ان يسرقهما منا خلال ساعات. وبقدْر ما الخبر محزن بقدْر ما فيه التماعة ضوء تذكّرنا بأن بلدنا لا يُختصر بعصابة حكَّام ولا بـ”نواب نيترات” ولا بسارقي أرزاق ولا بمروّجي ايديولوجيات فاشية وعصبيات. خميرتُه لا تزال تمدُّنا بالكبار، من زغرتا جبور الى زحلة فارس، فقيدي الرواية والفكر وشريكَي كل لبناني آمن بأن لبنان وطن ذو سيرة تستحق ان تُروى بدمائها ودموعها وأفراحها، وبأن التفكُّر في الاجتماع اللبناني هاجسُ بحث نبيل للحفاظ على الاستقلال والكيان.

 

لا ينضم جبور وفارس الى “قائمة فُقدان” عادية، فكلاهما شريك في اعادة تأسيس شرعية وجود لبنان، أولهما بالرواية المؤرّخة لكل البيئات على امتداد البلاد انطلاقاً من بيئته المصغرة في الشمال، وثانيهما عبر وضوح فكري ونظري رفَع استقلال الوطن الصغير من ترتيبات بين القوى الدولية الى مرتبة استقلالات تستحقها شعوب أكثر عدداً وأوسع تجربة وأغنى موارد.

 

شبيها سمير فرنجية وأمين معلوف وسمير قصير ولُقمان وغيرهم كثيرين في “الهويات المركَّبة”، جنَّدا فرنكوفونيتهما واستاذيتهما في خدمة الثقافة العربية المنفتحة والتفكير الحر والالتزام الصارم بالعدالة والديموقراطية وقضايا الانسان، كون انسانيته سابقة حتماً لعقيدته وانتمائه الديني والطائفي والسياسي وأسمى منهما بأشواط.

 

في داخل كل لبناني سويّ شيء من هؤلاء. جبور يسترجع التاريخ ويعيد بناءه روائياً لتحل المصالحة محل الثأر وليتحول “مطر حزيران” حافزاً للعيش في ظل دولة قانون لا مزرعة عائلات أو دويلات. وفارس “يفْلشُ” الفلسفةَ “على المائدة” في أبحاث الفكر الفلسفي ويكشح الغبار عن رواد مجهولين ويسلط الضوء على استقلاليين كبار وعلى أعمدة الفكر اللبناني، بلغة الفيلسوف المتأنق العالِم بأساطين الفلسفة من أفلاطون الذي اعتبره أساس كل الفلسفة الى فوكو الذي حظي بمحاورته، إضافة الى أعلام الفكر الاسلامي التنويري.

 

جبور وفارس أكاديميان منتجان ومبدعان في آن. لم يشغلهما العمل اليومي والتدريس في الجامعات عن الهمّ العام، فانغمسا عبر انتاجهما المميز في سبر معاني وسِير الأمكنة وساكنيها، وسبل عيش كل اللبنانيين وعلاقتهم بالنظام السياسي وآلياته وعثرات تداول السلطة فيه، مسخّرَين طاقتيهما لانتاج أفكار تحديث علمانية توحّد ولا تفرّق في إطار السيادة والاستقلال، وقبلهما حرية القول والفكر وممارسة أساليب الحياة. مثقفان غير منسحبَين ولا مترفّعَين ولا عالقَين بالأوهام والخيالات. الرواية والفلسفة، “أرفع الأدب” و”محبة الحكمة”، في خدمة الانسان ولبنان.

 

لذكراهما أجمل تحية، ولضريحيهما ألف وردة ووردة.