انت على الأرجح لا تعرف من هي جاكلين إسبر(“ريما”) التي رحلت عنّا منذ أسبوع، وهذا غير مستغرب، لسببين: أوّلاً، لأنها قضت العقود الأخيرة من حياتها متخفّيةً، تلاحقها السّلطات الغربية والإسرائيلية وأعوانها في الدّاخل، لإدانتها بعدّة تهمٍ كان أشهرها اغتيال ملحق السّفارة الإسرائيلية في باريس، ورابط الموساد فيها، ياعكوف بارسيمنتوف، عام 1982.
ثانياً، نحن لا نعرف مناضلة كجاكلين لأنّ نموذج “المناضل\ النجم” و”المناضل\ الكاتب” و”المناضل\ المهرّج” قد راج وهيمن حتّى اختلط الأمر على الكثيرين، وتحوّر عندهم معنى “النضال” (مؤخّراً، أصبح لدينا ايضاً نموذج “المناضل” الذي تموّله المؤسسات الأوروبية، ويتبناه الإعلام الغربي ويعتنق قضيته).
لم يعد واضحاً للرأي العام أن أكثر المناضلين هم أناسٌ يعملون بصمت، ينفّذون مهمّتهم، ويدفعون الثمن كاملاً من أغلى ما يملكه الإنسان ــــ عمره وأمنه ــــ من غير أن يتوقّعوا اعترافاً أو تعويضاً أو شهرةً. ومن يظلّ على قيد الحياة لا يجمع ثروةً ولا يكتب سيرةً ولا يلقى حتّى، في حالاتٍ كثيرة، انتصاراً يعوّضه عن التضحيات. هم بطلٌ من أبطال الثورة الفلسطينية يعمل اليوم سائق تاكسي في عمّان، مقاتلٌ يحتضر وحيداً ومجهولاً في عاصمةٍ باردة، أو فدائيّ صار شيخاً في بيروت، لا يملك الّا الغربة والكرامة. ومثلهم، في هذه الأثناء، من يُفني عمره وشبابه من غير أن تسمع به، فمهمّته هي أن يهرب من الكاميرات لا أن يسعى اليها، فيما نحن ــــ باقي النّاس ــــ نعيش حياتنا ونتعلّم ونعمل ونحبّ، ونحزن وننكسر بسبب الخسائر الصغيرة.
الفارق في حالة جاكلين ورفاقها هي أنّ حربهم لم تنتهِ، لا بالشهادة ولا بـ”التقاعد”. بل هم، من تبقّى منهم، يظلّون ملاحقين مهدّدين ــــ والعدوّ لا ينسى ولو نسيهم رفاقهم السابقون ــــ وتستمرّ مهمتهم حتّى لحظاتهم الأخيرة (أو حتّى تأتي الى هذه البلاد أنظمةٌ غير تابعة، تحمي من ناضل لأجل هذه الأرض ولا تسلّمه للعدوّ). كانت “ريما” في مطلع عشريناتها حين استقلّت الطّائرة غرباً تحت ستار الدّراسة. وهدفها الحقيقي، الذي تدرّبت لأجله، هو تنفيذ سلسلة من العمليات ضدّ أهدافٍ اسرائيلية وصهيونية في اوروبا. كانت “ريما” جزءاً من مجموعة ثورية لبنانية انبثقت عن تنظيم وديع حدّاد، وكلّ أفرادها الذين ما زالوا بيننا هم اليوم إمّا في الإعتقال أو ملاحقون، لا يحميهم حزبٌ أو تنظيمٌ أو دولة، ويواجهون، أفراداً، أجهزة مخابراتٍ ما زالت تبحث عنهم بإصرار ومناها أن تأسرهم أو تقتلهم.
حين توفّيت جاكلين الأسبوع الماضي، لم يكن الكثير من المعنيّين بقضيتها متيقّنين ممّا إذا كانت لا تزال على قيد الحياة، وهل هي في لبنان أو خارجه. وعندما تكتشف وجود هؤلاء الناس اثر مماتهم، تتعجّب كيف عاشوا بيننا طوال هذه السنوات، من دون أوراقٍ رسمية أو عملٍ أو مصادر دخلٍ، أو حتى تأمين طبّي بسيط، وكيف استمرّوا وصمدوا متمسّكين بقناعاتهم ومحتمين بالمجهولية. المسألة لا تتوقّف على الصعوبات العمليّة، فهؤلاء النّاس يراقبون ويعرفون ما يجري في العالم، ويشهدون من يخون ومن ينقلب، ومن سلّم رفاقه وأنكرهم، ومن جعل من النّضال رزقةً ونجومية، فيما هم بلا سندٍ أو حماية.
يجب أن يعرف الناس قصّة جاكلين لا لتكريمها (فهي لم تطلب من أحدٍ، يوماً، اعترافاً أو تكريماً؛ كلّ همّها كان في تنفيذ ما اعتبرته واجبها)، بل ليرى الجّيل الجديد شكلاً حقيقياً للنضال، يختلف عن ذاك الذي تروّج له وسائط الهيمنة ويعجبها وترضى عنه؛ وأنّ يفهم أنّ اختيار هذا الطريق يعني وعياً مسبقاً بالكلفة التي ستدفعها، وأن تتوقّع الخيانة وتحتملها، وأن لا يضيرك أن تكون قدّيساً منسيّاً. الهدف هنا ليس التأسّف أو الحداد والشكوى، فنحن من يستحقّ الأسف وليس جاكلين، بل تبيان أن “ريما”، اخيراً، قد نجحت في مهمّتها.
لم يكن في وسع جاكلين ورفاقها التحكّم بالأحداث التي ضربت أوطانهم وقضيّتهم، أو ردّ تراجع اليسار وفساد الأنظمة وانهيار الاشتراكية. ولكنّهم، في وسط كلّ هذه الظّروف اليائسة، حدّدوا بوضوحٍ المسار الصّعب الواجب عليهم. اعتبرت جاكلين إسبر، طوال هذه السّنوات، أنّ أمامها مهمّتين: أن تتمسّك بمبادئها ولا تتراجع أو تتنازل أو تساوم (وهو أصعب بكثير مما يتخيله الناس)، وثانياً ــــ وهذه لا تقلّ أهميّة ــــ أن لا يتمّ القبض عليها، وأن تظلّ حرّةً، ولا تقع في أيدي أعدائها؛ وجاكلين قد نجحت في المهمّتين. من هنا، ولأنّها مناضلة حقيقية، لم تخلّف جاكلين حين رحلت أي مقتنيات، ولم تترك “بياناً” أو رسالة الى الإعلام، أو حتّى وصيّة. لم يتبقَّ منها الّا المسدّس.