IMLebanon

جميل السيد والإنقلابات

 

بعد جلسة مجلس النوّاب يوم الأربعاء الماضي 22 نيسان في قصر الأونيسكو خرج النائب اللواء جميل السيّد ليتحدّث عن أن “الدولار وصل اليوم إلى 3000 ليرة وسيصل إلى 4 و5 آلاف وأنا أعيش في هذه المرحلة جو العام 1992” وأضاف “لا توجد عداوة شخصية مع أحد ولا يوجد بيني وبين رياض سلامه إشكال شخصي وخاص والمسألة مربوطة بالممارسة”. هذا الكلام ترافق مع الحملة على حاكم مصرف لبنان واتهامه بأنه شريك في عملية الإنقلاب على الحكومة.

يعترف النائب اللواء جميل السيّد بالدور الكبير الذي لعبه على مدى سنوات عهد الوصاية السورية منذ العام 1991. وهو لا يجد مشكلة في التباهي بما أنجزه وحقّقه وبأنّه يعرف الكثير ولديه معلومات عن العديد من الأشخاص راكمها على مدى سنوات عمله الأمني في الجيش اللبناني ثم في المديرية العامة للأمن العام. وهو يفصح منذ خروجه من المسؤوليات الرسمية عن الكثير ممّا تختزنه شخصيته السياسية من خلفيات وأفكار كانت تحكم طريقة عمله الأمني. وبغضّ النظر عمّا يقوله هو، فهناك شبه تسليم بأنه كان صاحب الدور الأمني الأول في عهد الوصاية ويعتبر كثيرون أنه كان رمز هذا العهد. وعندما يتمّ الحديث عن الأجهزة الأمنية في ذلك العهد الذي استمر منذ العام 1991 حتى العام 2005 فقد يعني ذلك إشارة مخفية إليه.

 

حلم النيابة ورئاسة المجلس

 

منذ أعوام يلعب السيد دوراً سياسياً توّجه بانتخابه نائباً في أيار 2018 عن دائرة بعلبك الهرمل وعلى اللائحة التي دعمها “حزب الله” وحركة أمل ولكنه يعتبر أنه فاز نتيجة ما له من رصيد شعبي وصدقية لدى الذين انتخبوه وبأنّه لا يدين بهذا الإنتخاب إلى أي جهة أخرى. وهو لذلك لا يُقصّر في انتقاد “حزب الله” أحياناً وحركة “أمل” والرئيس نبيه بري رئيس مجلس النواب بحيث أن هناك من يعتبر أنه يطمح للحلول محله في رئاسة المجلس من دون أن يكون لمثل هذا الأمر أي أساس بعد ومن دون اعتبار أن “حزب الله” يمكن أن يسلّم به حتى لو كان من حقّه أن يحلم بالوصول إلى هذا الموقع الشيعي الأول في الجمهورية اللبنانية.

 

ما يكشفه النائب السيّد من خلفيات تحكم تصرفاته وآرائه يكشف بطريقة مباشرة النهج الذي اختاره طريقة لممارسة عمله الأمني ولذلك ارتبط اسمه في الكثير من الأحداث والإنقلابات السياسية والأمنية. ومن هنا يعتبر كثيرون أنه إذا كان اليوم وهو خارج السلطة الأمنية ودائرة القرار يفصح عن كل هذا الكمّ من المواقف والتهجّمات والعدائيات فإن كل ذلك يمكن أن يفسّر أن تحميله مسؤولية الكثير من الأحداث التي حصلت بين العام 1991 والعام 2005 يقع في محله.

 

الإنقلاب الأول

 

عودة السيّد إلى ما حصل في العام 1992 تفتح آفاقاً واسعة على كل ما حصل بعد ذلك العام. لا شك في أن حديثه عن أنّ المرحلة الحالية تشبه تلك المرحلة وأنّ هناك عملية انقلاب تحضّر ضد الحكومة يعيد إلى الأذهان الطريقة التي تم التصرف بها لمواجهة “انتفاضة الدواليب” في 6 أيار 1992 وما حصل بعدها من انقلابات كان له دور فيها ودائماً بحجّة أن هناك مؤامرة ضد السلطة القائمة.

 

تزامن تعيين النقيب جميل السيد مسؤولاً عن فرع مخابرات البقاع في العام 1983 في بداية عهد الرئيس أمين الجميل مع تولي العميد سيمون قسّيس رئاسة مديرية المخابرات في الجيش اللبناني ومع تكليف العميد غازي كنعان مسؤولية قيادة المخابرات السورية في لبنان والإنتقال إلى الإقامة في مقرّه في عنجر. من هناك بدأت العلاقة تتّسع بين الرجلين، وفي كتاب النائب إيلي الفرزلي “أجمل التاريخ كان غداً” الكثير من المرويّات والأخبار التي تناول فيها حياكة الكثير من القضايا على مدى الأعوام الممتدّة طوال عهد الوصاية والتي كان محورها اللواء كنعان سواء في مراحل التوافق التام معه وفي مراحل الخلاف. هذه المراحل يتحدث عنها كثيراً النائب السيّد وقد ينشر الكثير من تفاصيلها في المذكّرات التي كان يُعدّها أيضاً ويجهّزها للنشر وربما يكون قد أخّر نشرها بسبب تدافع الأحداث والتعبئة العامة في زمن كورونا.

 

في المخابرات

 

ربما كان اللواء السيّد هو أوّل بداية زمن الإنقلابات منذ تمّ تعيينه في العام 1991 نائبًا لمدير المخابرات العميد ميشال الرحباني الذي كان رئيسه في مخابرات البقاع وتوثّقت علاقته به منذ ذلك التاريخ. كان المطلوب أن يكون دور اللواء السيّد بارزاً في مديرية المخابرات إلى درجة يمكن معها القول إنه طغى على عمل المدير بفعل الحظوة السياسية التي كان يتمتع بها. وعندما يتحدّث اليوم عما حصل في 6 ايار 1992 يكشف الطريقة التي تمت فيها المواجهة وقتها. كان من المفترض أن يبدأ انسحاب القوات السورية من لبنان تطبيقاً لاتفاق الطائف في أيلول 1992 وكان هدف النظام السوري الإنقلاب على الطائف كما كشف النائب ألبير منصور في كتابه “الإنقلاب على الطائف” الذي أصدره في العام 1992 قبل أن يصير بعد 28 عاماً رفيقاً للسيّد في اللائحة النيابية الواحدة. ذلك كان الإنقلاب الأول على انتفاضة 6 أيار عندما نزل الناس إلى الشوارع احتجاجاً على وصول سعر صرف الدولار إلى 3000 ليرة. تلك الإنتفاضة تم توصيفها على أنها محاولة انقلاب ضد السلطة التي كانت قامت برئاسة الرئيس الياس الهراوي الذي ختم حياته السياسية بكتابه “عودة الجمهورية .. من الدويلات إلى الدولة”. ولذلك كان الإنقلاب عليها من خلال فرض تقصير ولاية مجلس النواب وإجراء انتخابات نيابية جديدة أنهت مجلس 1972 ومكمّلاته من النوّاب الذين تم تعيينهم في العام 1991.

 

تلك السلطة التي قامت وقتها عاشت على الإنقلابات التي أديرت بحجة دائمة تتحدث عن وجود مؤامرة على السلطة وهو ما تتم إليه الإشارة اليوم من خلال القول إن حاكم مصرف لبنان رياض سلامه ضالع في مؤامرة انقلاب على حكومة الدكتور حسّان دياب بدعم من الولايات المتحدة الأميركية وبالتوافق مع مكونات 14 آذار ولا سيما تيار المستقبل والحزب التقدمي الإشتراكي والقوات اللبنانية.

 

انقلابات بالجملة

 

المواقف التي يطلقها النائب السيّد في كثير من الأحيان ضدّ الرئيس سعد الحريري والنائب السابق وليد جنبلاط والدكتور سمير جعجع تُذكّر بخلفيات انقلابات كثيرة حصلت.

 

حلّ حزب القوّات اللبنانية في 23 آذار 1994 واعتقال قائدها سمير جعجع في 21 نيسان كان انقلاباً. وانتخاب العماد أميل لحود رئيساً للجمهورية في أيلول 1998 كان انقلاباً. وتطيير الرئيس رفيق الحريري من رئاسة الحكومة بعد انتخابه كان انقلاباً. وتعيين اللواء السيد مديراً عاماً للأمن العام كان انقلاباً في الموقع الذي كان توالى عليه مدراء عامون موارنة. وعملية الإعتقالات في 7 آب 2001 كانت انقلاباً على نداء المطارنة الموارنة والبطريرك صفير وعلى مصالحة الجبل بينه وبين رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط. والتمديد للحود في أيلول 2004 كان انقلاباً. ومحاولة اغتيال النائب مروان حماده في أول تشرين الأول 2004 كانت انقلاباً. واغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 كان انقلاباً.

 

ضابط وثلاثة ضباط

 

بهذا المنطق يمكن اعتبار أن انتفاضة 14 آذار 2005 كانت انقلاباً. هي انقلاب على عهد الوصاية وعلى كل الموبقات التي رافقته وعلى دور الأجهزة الأمنية التي كانت تنفذ سياسته وتديرها وتقترحها.

 

ومن هذه الناحية يمكن اعتبار أن دخول السيّد إلى السجن إلى جانب مدير المخابرات العميد ريمون عازار ومدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء علي الحاج وقائد الحرس الجمهوري العميد مصطفي حمدان كان انقلاباً نُفّذ بواسطة لجنة التحقيق الدولية بغضّ النظر عما آلت إليه عملية التوقيف والإتهامات التي وضعت حدّاً لها أيضا المحكمة الدولية التي استمعت مطولاً إلى إفادات اللواء السيّد حول دوره طوال عهد الوصاية. من بين الضباط الأربعة كان التركيز الأهم على السيّد بحيث كان يمكن اعتبار أن توقيفه كان الأساس بينما الثلاثة الآخرون كان توقيفهم مجرد تفصيل.

 

واستكمالاً للمنطق الذي يتحدث به السيّد وإلى ربطه الأحداث وتشابه الظروف المتباعدة ببعضها لقراءة المرحلة الحالية يمكن اعتبار أن ما حصل بعد حرب تموز 2006 من مظاهرات وحصار للسراي الحكومي كان انقلاباً على 14 آذار وعلى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة. وأن هذا الإنقلاب عندما لم يكتمل استُكمِل بانقلاب 8 أيار 2008 بحجّة أن السلاح يحمي السلاح. وبهذا المنطق أيضا يمكن اعتبار أن إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري في كانون الثاني 2011 كان انقلاباً تمّ من مقر العماد ميشال عون في الرابية. وأن تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بعدها كان انقلابا وأن منع انتخاب رئيس للجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في أيار 2014 وفرض الفراغ ومنع اكتمال النصاب الدستوري كان انقلاباً وأن تشكيل حكومة الرئيس حسّان دياب ردّاً على انتفاضة 17 تشرين 2019 كان انقلاباً.

 

ذلك المفهوم لتلك الإنقلابات ترسّخ مع انقلاب 1992 الذي تحدّث عنه النائب جميل السيّد. ولكن إذا كان الرئيس الهراوي أراد عنونة مذكراته “عودة الجمهورية من الدويلات إلى الدولة” فإن الخوف اليوم هو أن تكون هذه الرحلة معاكسة بعودة الجمهورية من الدولة إلى الدويلات طالما أن ثورة 17 تشرين كان عنوانها عودة الدولة إلى الجمهورية وإلغاء منطق الإنقلابات التي صاغها عهد الوصاية من أجل بناء دولة فيها رجال دولة وليس نظاماً يكون فيه رجال للنظام يتّهمون معارضيهم بالإنقلاب والخيانة وينقضّون عليهم. ذلك أن الفارق كبير بين رجل الدولة ورجل النظام.