IMLebanon

دروس «الانهيار» الياباني

 

 

عندما يغرق أي انسان في همومه أو عندما تغرق أي دولة في مشاكلها وتحدياتها، تتجاهل دروس تجارب الخارج لأخذ العبر وهذا في نفس الوقت مفهوم وخاطئ. هنالك تجارب رائدة ناجحة يمكن بل يجب النظر اليها خاصة في الأزمات ومنها التجربة اليابانية.  هنالك اجماع على نجاح التجربة اليابانية في رفع مستوى المعيشة للمواطن منذ القدم، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية بالرغم من الدمار النووي الذي حصل.

 

في سنة 1979، كتب الاقتصادي فوغل «اليابان رقم 1» حيث توقع أن تصبح اليابان القوة الاقتصادية الأولى في العالم قريبا. لم يحصل هذا الشيء، من دون أن يعني ذلك غياب أي دروس لنا وللعالم.  علينا أن نتعلم من اليابان حسن العلاقات بين أرباب العمل والعمال حيث يغيب الصراع الذي نجده في أكثرية الدول.  نتعلم من اليابان كيف نجحت في تخفيض أعداد الجرائم بالرغم من الحياة الاقتصادية الصعبة.  نتعلم كيفية وضع برامج التعليم التي جعلت من مدارسها نموذجا ثقافيا وتقنيا يحتذى به.  نتعلم من اليابانيين كيف استطاعوا ايصال أفضل الأشخاص الى الادارة العامة أي أصحاب الكفاءة والقدرة على العمل وحسن التوقع والتخطيط.  ما زالت اليابان تعلمنا الكثير. مجموعة هذه العوامل الفاضلة تفسر كيف استطاعت اليابان أن تنتقل من دولة نامية في الأربعينات الى قائدة اقتصادية كبيرة قبل نهاية القرن الماضي.

 

لو استطاعت اليابان أن تستمر في نموها القوي كما حصل في فترة 1963\1973 لكانت تقدمت على الولايات المتحدة بالناتج المحلي الفردي قبل سنة 1985 وفي مجموع الناتج قبل سنة 1998. لم يحصل ذلك وتعثر النمو الاقتصادي بدأ من 1980.  ما هو السبب الأساسي؟  انخفاض نسب الانجاب واقفال الدولة أبوابها أمام المهاجرين حتى الآسيويين.  اليابان تشيخ بسرعة مما يؤثر سلبا على الانتاجية الاقتصادية العامة.  العمر النصفي الياباني هو 48,4 سنة وهو الأعلى عالميا.  سيكون هنالك متقاعد واحد لكل انسان عامل قبل سنة 2060، لأن عدد السكان سيتدنى 25% عندها عما هو عليه.  تمويل الحاجات الاجتماعية والتقاعدية هي مشكلة.  لذا ما يحصل اليوم وسيستمر هو الفائض في عرض المنازل وفي انخفاض أسعارها نتيجة انحدار عدد السكان.

 

تحتاج اليابان الى رفع انتاجية العامل وبالتالي الانتاجية العامة للاقتصاد.  تأتي زيادة الانتاجية من مصدرين مهمين أي عدد العمالة والانتاجية.  مع انخفاض العدد، كان لا بد من تنفيذ السياسات التي ترفع انتاجية العامل الواحد وهذا صعب تحقيقه في فترات زمنية قصيرة. رفع الانتاجية يتطلب استثمارا كبيرا مزمنا في الانسان أي في التعليم والتدريب.  في كل حال، ما زال الانسان مصدر النمو والازدهار مباشرة عبر انتاجيته.  هنا لا بد من أن نتساءل لماذا استمر تدفق الاستثمارات الى اليابان حتى في ظروف الانتاجية المتعثرة؟  هذا مدهش لكنه يرتكز على عامل الثقة التي استمرت اليابان في تعزيزه وتطويره.

 

مرت عقود على اليابان ومورست كافة السياسات الاقتصادية بعضها نجح والآخر سقط حتى جاء «أبي» الى الحكم في 2012 كرئيس للوزراء.  جاء مع برنامج يرتكز على 3 أمور:  الدعم النقدي أي زيادة حجم الكتلة النقدية مما سمح للين بالسقوط وبالتالي للصادرات بأن ترتفع.  حصل المصرف المركزي على استقلاليته في 1998 أي متأخرا.  كان الهدف الابقاء على التضخم دون 2% وهو حلم ياباني بعد سنوات التضخم السلبي أو الانكماش.  في الأمر الثاني، أنفقت الحكومة على البنية التحتية وطورتها استعدادا للألعاب الأولمبية التي أجلت من السنة الماضية الى اليوم وهنالك ضغوطات داخلية قوية لالغائها.  أما الأمر الثالث فهو اصلاح القوانين، خاصة وأهمها قوانين العمل مما يسمح أكثر للمرأة وللمسنين بالدخول والبقاء في العمل الانتاجي.

 

في الحقيقة، تعاني اليابان من الانخفاض الديموغرافي وهذا ربما يسبب لها الحسد من قبل العديد من الدول التي لا تعرف كيف تجد فرص عمل لسكانها المتزايدين بنسب تفوق الامكانات الحالية والمتوقعة.  هذا يعني أن اليابان تحتاج الى العمال لتطوير اقتصادها وللاستمرار في الانتاج وفي رفع الانتاجية.  هذه مشكلتها يضاف اليها عدم الرغبة في استقبال المهاجرين في وقت يزداد خلاله العرض من منطقتنا ومن أفريقيا. تعاني اليابان أيضا من غياب المساواة في أسواق العمل بين الرجل والمرأة بالرغم من حاجتها الى المساهمة النسائية.  في مؤشر فجوة المساواة بين الجنسين، تأتي اليابان عالميا في المرتبة 110 \ 149 أي أن الطرق طويلة.  لا تحصلن النساء على الوظائف المهمة، اذ تشير الأرقام الى أن 6,4% من المديرين هم من النساء وهذا بعيد عن العدالة والمناصفة.  ما يحصل عمليا هو بقاء النساء في مهن معينة أي هنالك نوع من الفصل بين العمل الذكوري والنسائي وهذا مضر في رأي الاقتصاديين اليابانيين.  ليست كل الأسباب اقتصادية، بل هنالك أمور ثقافية تاريخية موروثة تؤثر بقوة على ما يحصل على الأرض.

 

ما هي الاصلاحات المطلوبة في اليابان كي تعوض عن 60% من النتائج السلبية الصادرة عن الانحدار السكاني؟

 

أولا:  يجب تحرير أسواق السلع والخدمات لزيادة المنافسة الداخلية. هنالك حاجة لتطوير قطاعات الشركات الصغيرة والمتوسطة وتأمين التمويل. كما المطلوب تطوير أنظمة الحوكمة مما يؤدي الى زيادة الانتاجية والاستثمارات.

 

ثانيا:  تحرير وسائل التبادل التجاري مما يساهم في جذب الاستثمارات الخارجية المباشرة.  المطلوب زيادة المكننة في قطاعات أساسية منها الصحة والنقل والبنية التحتية والتكنولوجيا المالية.

 

استقال «أبي» في 28\8\2020 لأسباب صحية واستلم «سوغا» في 16\9\2020، ولا بد للسياسات من أن تستمر كما وعد الرئيس الجديد.  ما هي دروس التجربة اليابانية؟

 

أولا:  لا يجب الخوف من الانفاق العام.  التقشف مضر أحيانا بالرغم من وجود عجز مالي يقدر ب 3,6% من الناتج.  كما أن السياسات النقدية لم تكن سخية كما اعتقد الجميع، أي لم تزداد الكتلة النقدية قدر الحاجة وبقي المصرف محافظا في التنفيذ.  المطلوب الشجاعة في اتخاذ القرارات وتنفيذها.

 

ثانيا:  نسبة الدين العام هي الأعلى في العالم أي 240% من الناتج لكنها لم تشل الاقتصاد، وبالتالي التركيز على نسبة الدين وإن يكن مهماً فليس هو العامل الوحيد الذي يقيد قدرة الاقتصاد على النهوض والتطور.

 

ثالثا: لم تنجح السياسات الاقتصادية في تطوير الانتاجية وبالتالي لم ينتعش الاقتصاد كما كان يتمنى «أبي».  احدى المشاكل الأساسية التي نعاني منها عربيا وتبقى حاجزا أمام النمو هو العدد السكاني المتزايد خاصة في الدول الفقيرة.