Site icon IMLebanon

ما كان ينقص شعب لبنان إلّا اليرقان

 

تخوّف من تفشٍّ أوسع وسط تضارب في تقييم الجهات المعنية

 

 

كأنّه مقدّر على اللبنانيين، المنهكين أصلاً، ألّا يتنفّسوا الصعداء. وإن حصل وفعلوا، سرعان ما يأتي ما يحبس أنفاسهم من جديد. فبعدما خرج كابوس كورونا- أو هكذا نأمل، إلى غير رجعة- من الباب، أطلّ علينا شبح التهاب الكبد الفيروسي – (اليرقان) من الشبّاك. من طرابلس إلى البقاع وبيروت وباقي المناطق، نسمع عن إصابات هنا وهناك وهنالك. فما الأسباب، وماذا ينتظرنا وهل نحن مستعدّون للمواجهة، إن تطلّب الأمر… وكيف؟

هذا ما كان ينقص محمّد، الوالد لثلاثة أطفال، حسن (14 عاماً)، زينة (11 عاماً) وسيرين (9 أعوام) كي «تِكمَل معنا ببلد ما حدا سائل في عنّا»، على حدّ تعبيره. فمنذ عشرين يوماً تقريباً، استفاق محمّد الذي يعيش مع زوجته وأولاده في حيّ شعبي في طرابلس على أنين ابنته الوسطى تشكو من ألم حادّ في الرأس والبطن إضافة إلى غثيان وتقيّؤ شديدين. حمل الأب الابنة على وجه السرعة إلى أقرب صيدلية حيث طُلب منه إخضاعها لفحص اليرقان. النتيجة جاءت إيجابية، ما استوجب إبقاؤها في المنزل تحت رعاية طبّية وغذائية خاصة وعلاج من أربع مراحل، حُقنت في خلاله بالأدوية عن طريق المصل. حسن وسيرين لم يسلما ليحذوا حذو أختهما، حيث بدأت الأعراض المماثلة بالظهور عليهما تباعاً.

شكّ بالمياه

 

تدهورت حالة سيرين الصحية بسرعة، ما استدعى نقلها إلى «المستشفى الإسلامي الخيري»، فكان شرط الدخول تسديد مبلغ ألف دولار أميركي على الحساب، خُفّض بعد مفاوضات إلى النصف، فمن أين يأتي الخير؟ عندها توجّه محمّد بابنته إلى «مستشفى المظلوم» حيث أُخضعت الفتاة لتحاليل بيّنت ضرورة إدخالها غرفة العناية لتلقّي العلاج. وكون قدرة الوالد المادية لا تسمح له بتحمّل مصاريف المستشفى، اقترح توفير العلاج لها في المنزل تحت إشراف صديق له يعمل في مجال التمريض. ويقول لنا: «إذا التحاليل كلّفت 3 ملايين ليرة، قدّيش بدّو يكلفني المستشفى وأنا النهار يلّي ما بشتغل فيه ما بقدر طعمي ولادي؟». حسن، هو الآخر، احتاج لعلاج شبيه بعلاج أخته.

 

محمّد الذي يؤكّد تلقّي أولاده اللقاح في مرحلة الطفولة، ما زال يجهل حتى الساعة أسباب الإصابة، لكنه يشير إلى تغيّر ما حصل في طعم المياه منذ فترة اشتكى منه معظم سكان المنطقة، وقد جاء ذلك تزامناً مع قيام مصلحة مياه طرابلس بأعمال صيانة وتصليحات. وأضاف: «أتوقع أن الفيروس تغلغل في الأجسام في تلك الفترة حين كانت المياه ملوّثة، وبدأت العوارض تظهر بعد أسابيع».

 

العدوى انتقلت بين الأخوة رغم الحرص على عدم مشاركتهم الأواني والأغراض الشخصية، وهم لم يتماثلوا كلياً للشفاء بعد. فعلامات التعب والإرهاق والاصفرار ما زالت بادية عليهم فيما وضعهم النفسي ليس على ما يرام. وعن وزارة الصحة يخبرنا الوالد أن جلّ ما بادرت إليه هو اتصال هاتفي بالوالدة منذ أيام للاطمئنان على وضع الأولاد الصحي. أمّا العلاج الذي بلغت تكلفته حتى اليوم حوالى 25 مليون ليرة، والأدوية التي يتكبّد محمّد مشقّة تأمينها من الصيدليات، واللقاح غير المتوفر في لبنان، فمن يتحمّل مسؤوليتها؟ هي حالة من حالات، فهل ينقص المواطن اللبناني معاناةً فوق معاناةٍ؟ بشيء من اليأس والأسى، لم يجد محمّد ما يتوجه به إلى المسؤولين سوى أن «الكلام معهم لا فائدة منه». إلى بعض من هم في موقع المسؤولية ننتقل.

 

الترصّد صعب

 

تواصلت «نداء الوطن» مع وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال، الدكتور فراس الأبيض، الذي اعتبر أن اليرقان ليس بالمرض الجديد في لبنان، فالإصابات موجودة دائماً، لكن ما حصل بداية الشهر الحالي، هو ظهور ما يسمّى بالـ»طفرة» على غرار ما شهدناه في العام 2017، حيث ارتفع عدد الإصابات بشكل ملحوظ. وما زاد الوضع سوءاً في السنتين الأخيرتين، هو تسخير كافة جهود الوزارة للتصدي لجائحة كورونا، ما أدّى إلى عدم ترصّد حالات اليرقان كما يجب.

 

وإذ شرح لنا الأبيض بأن الهدف من الترصّد هو منع حصول الحالات، أو على الأقلّ الحدّ من تحوّلها إلى طفرات كبيرة، أشار إلى الجهود التي قام بها فريق العمل لا سيما في فحص عيّنات المياه في طرابلس وفي التوعية حول إجراءات الوقاية سعياً للحدّ من انتشار العدوى. من جهة أخرى، يرى الأبيض أن القاعدة الأساسية التي تُبنى عليها عملية الترصّد هي معرفة السبب أو المصدر ومن ثمّ معالجته. ويضيف: «الاحتمال الأكبر هو حصول تلوّث في المياه نتيجة أعمال صيانة قامت بها مصلحة مياه طرابلس، رغم أن نتائج الفحوصات المخبرية لم تشر إلى ذلك». كيف ذلك إذاً؟ «تتراوح فترة حضانة اليرقان بين ثلاثة وأربعة أسابيع، فالتلوّث ربما يكون قد حصل خلال فترة الأعمال لكن العوارض لم تظهر على المصابين إلّا بعد أسابيع، كانت خلالها المياه قد عادت إلى وضعها الطبيعي، ما صعّب عملية الترصّد».

 

وزارة الصحة تقوم حالياً، بالتعاون مع اليونيسف، بحملات توعية في المنطقة وتوزيع بعض المعقّمات. لكن ماذا عن اللقاح؟ «هناك نقاش عالمي حول ضرورة القيام بحملات تلقيح ضدّ اليرقان، لكن بعثة منظمة الصحة العالمية أفادت في آخر زيارة لها إلى لبنان بعدم ضرورة إدراج اليرقان على لائحة الحملة الوطنية للقاح». وفي السياق نفسه ذكر الأبيض اجتماع لجنة الأمراض المعدية الإثنين الماضي بحضور ممثلة المنظمة للبتّ في موضوع اللقاح، غير أن القرار لم يُحسم بعد. وعن سؤال حول جهوزية المستشفيات وتوافر العلاج، يؤكد الأبيض أن غالبية المصابين لا يحتاجون دخول المستشفى سوى للخضوع لعلاجات بسيطة تتعلق بالجهاز الهضمي، مضيفاً: «لم نشهد حتى الآن حالات خطيرة وشديدة العدوى، وقد أعلنت الوزارة تكفّلها تغطية جميع العلاجات».

 

ماذا عن الأعداد وهل من توجّه إلى عزل مدينة طرابلس؟ «حتى الآن نتوقع استقراراً في الأعداد، وبالتالي انخفاضاً في ما بعد، وستقوم الوزارة بإصدار تقارير يومية بهذا الشأن. كما أنه ليس المطلوب عزل المناطق وإنما معرفة مصدر التلوّث والسيطرة عليه»، كما يختم الأبيض.

 

الإصابات إلى تزايد؟

 

في اتصال لـ»نداء الوطن» مع نقيب الأطباء الجديد، الدكتور يوسف بخاش، كان له رأي آخر، حيث قال: «كنا نتكلم عن تفشّي مرض، لكن ملامح الوباء بدأت تظهر بسبب الانتشار السريع في لبنان، من طرابلس إلى البقاع فبيروت». وإذ اعتبر بخاش أن الفيروس موجود أساساً في الطبيعة وينتقل عبر المياه الملوّثة أو مياه الصرف الصحي، أو حتى بسبب تلوّث المياه الجوفية، توقّع أن تكون المياه المستخدمة في عمليات الريّ السبب الرئيسي وراء التفشّي لا سيما وأن فحوصات مياه الشرب أتت سليمة.

 

وتابع بخاش أن عدد الإصابات الذي تقوم وزارة الصحة بالإعلان عنه هو غير دقيق نظراً لعدم ظهور الأعراض على الصغار المصابين بشكل واضح. وبخلاف الأبيض، توقّع ارتفاعاً في عدد الإصابات كون فترة حضانة الفيروس تتراوح بين أسبوعين إلى أربعة أو خمسة أسابيع: «هناك أشخاص لا عوارض ظاهرة عليهم حتى الآن لكنهم يحملون العدوى ويقومون بنقلها».

 

رغم ذلك، يطمئن بخاش إلى أن اليرقان ليس مصدراً لعدوى خبيثة إذ تتكوّن لدى المصاب في معظم الأحيان مناعة من تلقاء ذاته ما يساعده على التعافي التدريجي، وهذا ما يحميه لفترة طويلة. وفي حين أن العلاج يقتصر على أدوية تخفيض الحرارة ومعالجة التقيّؤ والإسهال كما التركيز على تناول السوائل، لفت إلى أن أكثر الفئات المهدّدة هم كبار السنّ ومن يعانون من أمراض مزمنة كالضغط والسكّري، لما قد يصيبهم من قصور في الكبد وتوقّف وظائفه، لكنها تبقى حالات استثنائية.

 

اللقاح الذي وصفه بخاش بالوسيلة الوقائية لا العلاجية، ليس من شأنه مداواة المريض. فدوره ينحسر في تكوين مناعة تحمي الأشخاص المعرّضين للإصابة لا أكثر. نسأله إن كنا أمام إعلان حالة طوارئ، فيجيب: «أعتقد، في ظلّ ازدياد الأعداد من يوم إلى آخر، أن الفيروس سيتفشّى بسرعة، لكنه لم يخرج عن السيطرة بعد. علينا تقصّي الطبقات الاجتماعية الأكثر عرضة للإصابات وتحديد مناطق تمركز العدوى قبل التكلّم عن حالة طوارئ». ختاماً، دعا بخاش إلى الانتباه لنوعية المياه المستخدمة وتعقيم الخضار، وعزل الأشخاص المصابين لكسر شبكة العدوى.

 

لإعلان حالة طوارئ صحيّة

 

يوم الأحد الماضي، قام نقيب صيادلة لبنان، الدكتور جو سلّوم، بجولة في مدينة طرابلس واستوقفه مشهد المواطنين الذين يقصدون الصيدليات بدل المستشفيات لعدم قدرتهم على تسديد تكاليف الأخيرة. سلّوم، الذي أكّد لـ»نداء الوطن» أن اللقاحات التي تُعطى للصغار كما للكبار مفقودة، عاد ودعا مجدداً إلى إعلان حالة طوارئ صحيّة إلى أن يتمّ تأمين اللقاحات اللازمة. وبما أن الفيروس ينتقل عبر المياه والمراحيض ومشاركة الأغراض، شدّد على ضرورة التوعية مطالباً كافة الوزارات القيام بدورها. عن سبب عدم وضع لقاح اليرقان على لائحة الحملة الوطنية للقاح رغم انتشار العدوى يقول سلّوم: «ربما لأن المرض أصبح محصوراً عالمياً، لكن الوضع يختلف في لبنان خاصة في الأماكن الفقيرة والمكتظّة. أما انقطاع التيار الكهربائي وعدم القدرة على تأمين أدنى معايير النظافة الشخصية، فقد فاقما الأمور بلا شك». وقد تكون أوجه الشبه بين طرابلس والبقاع، وهما المنطقتان اللتان تشهدان أعلى نسب من الإصابات، الاكتظاظ في الأماكن الأكثر فقراً ما يساهم في سرعة الانتشار في ظلّ غياب الوعي أحياناً.

 

الأدوية متوفرة بمعظمها، بحسب سلّوم، كما أنه ليس من الضروري عزل المناطق بل القيام بحملات توعية وتأهيل المستشفيات لاستقبال المصابين، إضافة إلى تدخّل جميع الجهات الأمنية وغير الأمنية لفحص الخضار والفاكهة قبل نقلها وتوزيعها بين المناطق.

 

«الصيدلي، الذي هو أخصّائي في علم الدواء، يبقى الأقرب إلى المريض وبالتالي يكون الاحتكاك الأول معه. لذا هو معرّض أكثر من غيره للإصابة خصوصاً بعد ظهور أعداد غير مسبوقة للمصابين داخل الصيدليات»، من وجهة نظر سلّوم. لكن الكلمة الأولى والأخيرة تتمثّل بضرورة توفير الدواء واللقاح لأن صحة واستشفاء المواطن هما الأولوية. هنا نعود لنسأل مجدداً: ماذا ينتظرنا؟