IMLebanon

جبيل… عاصمة العيش معاً

 

المجتمعات التعدّدية كالدوائر إذ تلتقي: بعضها يتلامس، وبعضها يتداخل جزئياً. فإذا تباعدت الدوائر، يصبح المجتمع مجموعة مجتمعات كأرخبيل الجزر. وإذا دخلت دائرة بالكامل في محيط أخرى، انتهت التعدّدية، سواء في سبيل تثبيت غلبة أم على قاعدة معيارية للتفاضل.

 

 

وراء خطاب النوايا والاستعدادات الشكلية، ثمّة ضرورة حيوية لتتداخل الدوائر وتلتقي الأديان وتبقى التعدّدية في المجتمع – وحتى داخل كل جماعة، كمصدر غنى. دون ذلك تحدّيات هائلة، ولكنها مستأهلة إذ ينجم عنها اكتساب مهارات متقدّمة، لعلّ أبرزها العيش معاً.

 

إحدى المبادرات الخلّاقة إعلان العيد الوطني المسيحي- الإسلامي لبشارة مريم العذراء. ترافق هذا العيد مظاهر ثقافية مشتركة في الكنائس والمساجد معاً. ومريم العذراء وبشارتها في منطقة التداخل الجزئي بين دائرتَي المسيحية والإسلام – ولو بقيت خصوصيات عقائدية ولاهوتية، لا يعني نقاشها كلّ الناس وعيشهم معاً. تداخل الأديان مهم، لا في ظروفه التاريخية والاجتماعية فقط، إذ عاش نبيّ المسلمين في كنف الرهبان والقساوسة النساطرة وتزوّج من ملّتهم وتأثّر بها، بل ينجم أيضاً عن تداخل الأديان تثاقف وتنشئة يعزّزان اكتساب قيم المواطنة وبعض مهاراتها.

 

 

 

ومدينة جبيل مستحقّة، لا سيّما في عيد البشارة، أن تُكنّى بعاصمة العيش معاً المسيحي- الإسلامي بين اللبنانيين. فاحتفاءً ببشارة مريم العذراء، فتحت الكنائس والمساجد أبوابها معاً. وكلّ داخلٍ إليها، يخرج من انغلاق طائفي أجوف ويدخل في رحاب الوطن كأرض للتعدّدية.

 

 

 

كانت المرة الأولى التي أرى فيها النساء، مسيحيات أو مسلمات، في مسجد ودون حجاب الرأس… كان ذلك في جبيل وعلى مرأى المفتي الشرعي وممثل المفتي الجعفري اللّذين ينصاعان بطيبة للإلزامات الأرقى للتعدّدية. فاستعدتُ حقبات مضيئة في التاريخ السياسي والاجتماعي للإسلام والمسلمين، حين كان رئيس الوزراء اللبناني السابق د.عبدالله اليافي يكتب عن عدم وجوب حجاب المرأة ولا حجبها في أطروحته في الحقوق بعنوان “الوضع الخاص للمرأة في شريعة الإسلام”. والسيد موسى الصدر، وفي مجلسه نساء سافرات الرؤوس، كما عهد معظم أئمة جبل عامل وعلمائه في مجالسهم المختلطة، قبل أن يهجم التشيّع الخميني بنمطه الموجّه وطقوسه المُسقطة على الشيعة اللبنانيين في مجتمعهم التعدّدي ويطمس ثقافتهم الفريدة.

 

 

 

المجتمع التعدّدي اللبناني، بمسيحييه ومسلميه – بل أيضاً بأبناء الطائفة الإسرائيلية الذين شملهم إحصاء 1932، مدعوٌّ للابتكار الحضاري في الأديان، والتخفيف من غلوائها وصورها القصوى، وتقديم نموذج عن عدم إطباق الدين على الثقافة التي تشمل الدين بمقدار ما هو خيار فردي للمواطن، لا مشروع سلطة في المجتمع.