IMLebanon

جبيل الوفيّة … باقية على العهد

ليست كل الصورة في لبنان سلبية, ثمة مساحة رحبة للفرح والجمال والسلام خارج الجو السياسي العام المأزوم والقلق الكبير على المستقبل والمصير رأيناه في مهرجانات الصيف التي تحدت كل الظروف والاوضاع في بعلبك وبيت الدين وجبيل والارز وغوسطا وزحلة واهدن وقرطبا وغيرها وغيرها من المناطق اللبنانية التي لا مجال لذكر جميعها الان…

وهذا يعني ايضآ ان ثمة مكاناً ومتسعاً لكل المبادرات الطيّبة والايجابية التي تقاوم الواقع الحزين والمخيف وتعطي جرعات امل للبنانيين وترفض اجواء الانكفاء والتقوقع والاستقالة.

الاحتفال الذي اقامته بلدية جبيل ورئيسها زياد حواط لتدشين بولفار العميد ريمون أده وازاحة الستار عن نصب تذكاري له, هو واحد من هذه العلامات الفارقة والمضيئة وقد شكّل خرقاً للمشهد السياسي الهزيل والمعيب واعادنا الى الزمن اللبناني الجميل زمن الكبار.

خرقٌ بسيط ولكنه معبّر في دلالاته ومعانيه، لكن أوضحها واولها كانا ان جبيل الوفية, جبيل الاحلى, باقية على العهد لكل من أحب لبنان واعطاه ودافع عن استقلاله وسيادته وحقوقه وقضاياه…

احتفال جبيل كان تحية وفاء وتقدير لعظيم من بلادي لم يُنصف في حياته ولم نعرف قيمته كلبنانيين إلا بعدما فقدناه، اسمه ريمون اده. الاحتفال تابعه معظم اللبنانيين بشغف ولهفة عبر الشاشات لأنه يثير لديهم الحنين إلى الزمن الجميل والماضي المجيد . وهذا الحنين إلى الماضي يزداد ويشتد في ظل ما تشهده الحياة الوطنية والسياسية من خواء وفراغ ونقص هائل وهزالة في القامات السياسية في هذا الزمن الرديء.

ان اكثر ما يجعل اللبنانيين يشعرون بالخيبة والمرارة هو الفارق في مستوى الممارسة والاداء بين سياسيي الأمس واليوم. وهم إذا ظلوا مشدودين إلى رجالات الماضي وإلى حقبة ريمون أده وغيره من كبار ذلك الزمن، فلأنهم مصدومون برجالات اليوم وبالمقارنة التي تظهر الفارق الكبير بين ما كنا فيه وما اصبحنا عليه.

نعم … ريمون أده واحد من « القادة اللبنانيين الكبار الاقحاح « وهو استحق وعن جدارة ان يكون «ضمير لبنان». لقد عرفت وعايشت هذا العملاق عن قرب لسنوات طويلة خلال وجودي في العاصمة الفرنسية باريس وربطتني به علاقة صداقة. وهنا لا اذيع سراً اذا قلت ان هذا الرجل كان سبّاقاً في اكتشاف الخطر واستشرافه على لبنان والتنبيه اليه واتخاذ المواقف الوطنية والشجاعة والصلبة لمواجهته والتصدي له اعلامياً وسياسياً وعبر علاقاته واتصالاته, وها هي الايام والاحداث والتجارب تثبت انه كان فيها «على حق وصواب».

ما لفتني في احتفال جبيل لم يكن فقط مشاركة كل الاطياف والافرقاء والقوى السياسية من كل لبنان، وما يحتويه هذا الاحتفال من رمزية وطنية ومعان في الوفاء للتاريخ ورجاله…

كما لفتني ايضاً الكلام النوعي الذي قيل فيه وتحديداً ما جاء على لسان وزير الداخلية نهاد المشنوق بصراحته المعهودة وبشجاعة سياسية وأدبية قلّ وجودها هذه الأيام.

قال المشنوق مخاطباً الراحل الكبير ريمون أده: «أنا اعترف أمام ذكراك وفي حضرة روحك النبيلة … كم كنت على حق حين رفضت بعناد اتفاق القاهرة عام 1969 وهو الاتفاق الذي شرّع البلاد أمام تجربة السلاح الفلسطيني وأنا من جيل ينتمي إلى هذه الخطيئة بحق لبنان واللبنانيين…».

واضاف : كما اعترف ايضاً أنا «اللبناني البيروتي السنيّ الحريري»، كم كنت على حق يوم حذّرت من تحويل اتفاق الطائف إلى وسيلة لأَسر لبنان في قبضة الوصاية السورية، فرفضت الدعوة إلى المشاركة في اعمال النواب اللبنانيين في مدينة الطائف في أيلول 1989 وقد عزّ على لبنانيتك ان يرضخ نواب الأمة لموجبات الأمر الواقع وميزان القوة ويقبلوا بصياغات حول تنظيم للعلاقات «اللبنانية – السورية» تنتهك سيادة لبنان.

هذا الكلام النوعي والجريء والوطني لم نسمعه من قبل من شخصية « سنيّة « بيروتية. هذا كلام يعطي ريمون أده حقه وهو الذي كان على حق في ما رفضه وحذّر منه كمناضل سياسي ثبت في صلابة الانتماء إلى لبنان وأثبت رؤية وبعد نظر ووطنية ما غادرت يوماً قواعد الشراكة ولا غلّبت الاحقاد على التسوية في أزمنة المحن.

أهم ما في كلام نهاد المشنوق انه يعترف بالخطأ. والاعتراف بالخطأ فضيلة ولا يصدر إلا عن انسان واثق من نفسه ومحتكم إلى عقله وضميره ومتعلّم من دروس الماضي. فعندما يعتذر نهاد المشنوق «البيروتي السنيّ الحريري» في ذكرى «ريمون إده» عن انتقادات واساءات لحقت به وسوء فهم وتقدير لمواقفه، فانما بذلك ومن خلال هذين «الاعتراف والاعتذار» يقر للمسيحيين بانهم كانوا على حق عندما اضطروا ان يحملوا البندقية ويحاربوا الوجود الفلسطيني المسلّح ، كما يقر لهم انهم كانوا على صواب ايضاً عندما قاوموا الوصاية السورية وتصدوا لها ودفعوا ثمن هذا الموقف غالياً في الحكم والدولة والسلطة والادارة .

كذلك هناك وجه آخر إيجابي ومشرق لكلام نهاد المشنوق الذي باعترافه باخطاء ارتكبت في الماضي القريب، انما يشير إلى التحول الحاصل لدى الطائفة السنيّة الكريمة باتجاه خيار لبنان أولاً والاعتراف بلبنان كياناً نهائياً لجميع ابنائه وطوائفه بعيداً عن مشاريع وحدوية قومية واحلام ليست سوى أوهام…

نثمن عالياً جرأة نهاد المشنوق، فالناس ما عادوا يطيقون الكلام المنمق والمخادع وقد سئموا المناورات والاضاليل ولغة التكاذب ويتقيأون الخيارات والمواقف الرمادية والانتهازية. وما عادوا يحترمون ويتقبلون إلا المواقف العقلانية الواقعية، الصادقة والمقدامة.

وهنا وفي هذا الاطار تحديداً لا يسعني وأنا اتحدث عن جبيل الوفية، إلا ان اتوجه بكلمة إلى رئيس بلدية جبيل الصديق زياد حليم حوّاط … هذا الشاب الواعد والناجح والطموح والذي غدا مثالاً وقدوة في العمل البلدي والسياسي والشأن العام, وقدم نموذجاً حضارياً وجمالياً قل نظيره في لبنان، كما عرف كيف يتعاطى مع واقع جبيل وحاضرها ويجعل منها مدينة أحلى ولؤلؤة على شاطىء المتوسط وعاصمة العرب السياحية، وعرف كيف يحضّرها ويعدها لمستقبل أفضل، وعرف كيف يتعاطى مع تاريخها الغابر العابق بالحضارة والجمال والفنّ والحرف، ومع تاريخها الحديث الشاهد على رجال كبار حفروا عميقاً في الوجدان الوطني والذاكرة الجماعية وكانوا «رجال موقف وحق» مثل العميد ريمون أده…

زياد حواط انت الذي تردد دائماً في كلامك انه لا شيء مستحيل في الحياة اثبت فعلاً من خلال عملك وما قدمته حتى اليوم لوطنك ومدينتك جبيل من انجازات انه لا شيء مستحيل عندما يكون هناك ايمان وعزم وتصميم وارادة.

ايها الصديق العزيز نحن احوج ما نكون الى امثالك في العمل السياسي والوطني والبلدي في هذا الزمن الرديء واليائس والبائس، شكراً لك لانك اعدتنا الى الزمن الجميل زمن الكبار…